{فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:32-33] ، متى هذا؟ من أهل العلم من قال: هذا الكلام يوجه للثقلين في الآخرة، فيقول الله لهم في الآخرة: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرحمن:33] ، {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج:8-9] ، {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ} [الفرقان:25] .
حينئذٍ يحاول الإنسان الهرب، ويحاول الجان الهرب، فلا يستطيعون الفرار، كما قال الله سبحانه: {يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة:10-12] .
فمن أهل العلم من قال: إن قوله سبحانه: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن:33] هذا كلام يوجه إلى الإنس والجن الآن، ويوم تشقق السماء، وبين يدي الساعة عند حدوث الأشراط الكبرى لها، فلا يستطيعون الفرار كما قال تعالى: {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص:3] أي: وليس ثمّ مفر.
فهذا قول.
{لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] على هذا التأويل قالوا: إن المراد بقوله: {لا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33] أي: لا تنجون إلا بأمر الله سبحانه وتعالى، فهذا هو التأويل الأول لهذه الآية، أن هذا الكلام محله بعد أشراط الساعة الكبرى، يوم أن تشقق السماء بالغمام.
وثمّ قول آخر ألا وهو: أن هذا القول في الحياة الدنيا، فيبين الله سبحانه وتعالى أنه لا طاقة ولا قدرة للإنس ولا للجن على اختراق السماوات، وعلى التنصت عليها كما كان الجن يفعلون قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مسترقو السمع من الجن -كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم يعرجون إلى السماء واحداً فوق الآخر كما وصفه سفيان راوي الحديث بوضع إحدى كفيه على الأخرى إلى أن يصلوا إلى السماء، فيتصنتون على سماء الدنيا، ويستمعون إلى الملائكة وهم يتحدثون في العنان بما سيكون، فيخطفون الخبر من هؤلاء الملائكة ثم يمضون سريعاً إلى الكهنة والسحرة، فيلقون الخبر ومعهم مائة كذبة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم شددت الحراسة على السماء كما قالت الجن: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن:9] ، وكما قال الله سبحانه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ * دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات:6-9] ، فمن حاول اختراق السماوات سلطت عليه الشهب وأرسلت عليه النجوم فكانت رجوماً له، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] .
فالقول الثاني في تأويل هذه الآية: أن هذا في الحياة الدنيا، وهو تحدٍ للإنس والجن، وبيان عجز الإنس والجن عن اختراق السماوات واختراق الأرض.
وبهذه الآية وبضمينتها في سورة (ص) استدل الشنقيطي رحمه الله تعالى على بطلان المدّعى الذي فحواه: أن الإنسان صعد إلى القمر، ووصف هذه الأقوال بأنها أكاذيب، محتجاً بقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} [ص:10] والارتقاء: الصعود، والأسباب: الطرق الموصلة إلى السماء، ثم قال تعالى: {جُندٌ مَا} [ص:11] نُكِّر الجند للتعميم، {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص:11] ، أي: أن من يفكر في غزو السماء واختراق السماء الدنيا محكوم عليه بالهزيمة، كما قال تعالى: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص:11] ، واستظهر أيضاً بقوله تعالى في هذه السورة: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنتَصِرَانِ} [الرحمن:35] ، والله أعلم بصدق هذا المدّعى الذي ادعوه وهو الصعود إلى القمر، فقد ثارت في بعض الأزمنة محاولات لغزو الفضاء يعرفها كبار السن منكم إبان التنافس في غزو الفضاء بين الروس والأمريكان، فقد كانت ترسل الأولى سفناً للفضاء والأخرى ترسل، وبعد زوال ما يسمى: بالاتحاد السوفييتي، ماتت كل هذه الأشياء، ولم يعد لها الآن أي ذكر على الإطلاق.
وقد ذكر أن بعض الصينيين ألف كتاباً يثبت فيه: أن هذه كانت محاولات تجريها المخابرات الأمريكية والأمريكان في صحراء نيفادا، وليس للصعود على القمر حقيقة، فالله أعلم بصحة هذه الادعاءات، هو وحده سبحانه أعلم.
أما كوننا نجبر على تصديق الأمريكان في دعواهم فليس عندنا في ديننا ما يجبرنا على تصديقهم، فهم من حيث الأصل كفار، لهم أخبار تصدق وأخبار تكذب؛ إذ من شأنهم القول المشحون بالصدق مع الأكاذيب، وليس في ديننا ما يثبت ذلك، أما ما ينفيه فقد سمعتم ما ينفيه، والمسألة ما زالت محل نظر، والله سبحانه وتعالى أعلم.