{عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] ، البيان بيانان كما قال العلماء، والبيانان هما الأشهر، وإن كانت ثمّ أنواع أخر من أنواع البيان، فالبيانان الأشهر أحدهما: بيان باللسان، والآخر: بيان بالقلم.
وأصل البيان: إظهار ما في نفس الشخص للآخرين، وهذا يكون إما عن طريق اللسان، وإما عن طريق القلم، فالامتنان بالتعليم بالقلم ذكر في سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1-5] ، فنعمة من الله إذ امتن علينا بتعليمنا البيان بكل أنواعه، وبهذا يفارق بنو آدم سائر العجماوات، من البهائم وسائر الدواب.
فإن قال قائل: إن الله سبحانه وتعالى امتن علينا بتعليمنا البيان بنوعيه كما ذكرتم، وكما أسلفنا ثمّ أنواع أخر من أنواع البيان كالإشارات وكالنظرات، لكنها ليست بتلك الشهرة، إذ كتاب الله يذكر الغالب الأشهر.
فإذا قال قائل: إن الله امتن علينا بتعليمنا البيان، كما امتن على عيسى صلى الله عليه وسلم بقوله: {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ} [المائدة:110] ، فإذا كانت هذه نعماً فسؤال يطرح: لِم لم يعلمها رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ بل قال الله في شأنه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف:157] ؟! فلماذا لم يمتن الله على نبيه محمد عليه الصلاة والسلام بتعليمه البيان بالقلم؟! العلة من ذلك ظهرت في قوله تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت:48-49] .
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتعلم البيان بالقلم لعلة ألا وهي: دفع الشكوك عن الذين كانوا يزعمون أن بشراً يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما نص على ذلك في كتاب الله بقول الله سبحانه: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] .