باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فقد ورد بإسناد ينظر فيه: أن أبا أيوب الأنصاري كان يقول لزوجته: أنت خير أم عائشة؟ فتقول له: عائشة خيرٌ مني، وتسأله هي: أنت خير أم صفوان؟ فيقول: صفوان خير مني.
فتقول لزوجها ويقول لزوجته: إذا كان صفوان خيراً مني، وعائشة خيراً منك، وأنا وأنتِ لا نقبل أن نزني، فمن باب أولى أنهما لا يقبلان الزنا، لأنهما أفضل منا.
فالواجب عليك أن تظن بإخوانك الخير، قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] ، أي: الظن السيئ، أما الظن الخيري فمطلوب في أول وهلة إذا اتُهم أخوك بالزنا.
قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ} [النور:12] أي: كذب واضح ظاهر.
قد تتشابك الأمور لكثرة الناقلين، فلان يأتي وينقل لي، وفلان يأتي وينقل لي، وفلان يأتي وينقل لي، فتكثر المقالات حتى أكاد أُغلب وأصدق بالطعن الذي طعن به أخي، فماذا عليّ إذا غلبت في هذه الحالة؟ قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور:13] ، فيا أيها المدعي لهذه التهمة! ائت بأربعة شهود يشهدون لك بأنك صادق وقد تقدم حكم القذف فيما سبق من الآيات التي هي كالتوطئة لحديث الإفك، في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] .
قال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13] ، وهذه الخطوة الثانية مع الظن الحسن، فإذا جاء من يتهم إخواني في أعراضهم فإني أوقفه، وأقول له: ائت على ما تقول بأربعة شهود، وإذا لم تأت بهم فأنت فاسق، وشهادتك ساقطة، وحكمك أن تجلد ثمانين جلدة.
{وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] أي: فيما تقولتم به بألسنتكم (عذاب عظيم) ، ولكن رحمة الله سبحانه بكم رفعت عنكم هذا العذاب وإلا فأنتم تستحقونه بخوضكم بألسنتكم في أعراض إخوانكم، أنتم تستحقون العذاب العظيم لما تخوضون في أعراض المؤمنين وأعراض المؤمنات، {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النور:14] فليس كل كلام يتكلم به.
{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} [النور:15] كل يأخذ المقالة بلسانه وينقلها ولا يتثبت {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} [النور:15] وليس الأمر كما زعمتم، أخرج البخاري حديثاً -وإن انتقده البعض- وهو: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً) ، فليس كل حديث يتحدث به.
{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} [النور:15] أي: تحسبون الخوض في أعراض المسلمين والمسلمات أمراً هيناً سهلاً، وهو عند الله عظيم! {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16] أي: ليس لنا وما ينبغي لنا ولا يليق بنا أن نتحدث بهذا الحديث في عرض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعرض الصديقة بنت الصديق.
{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور:16] أي: ما ينبغي لنا هذا الحديث، كيف تسوّل لنا أنفسنا أن نخوض في أهل رسول الله؟ كيف تسول لنا أنفسنا أن نخوض في عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنها؟ {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ} أي: تنزهت -يا ربنا- عن أن يدنس بيت نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ونزهت زوجة نبينا محمد عن الزنا، يا ربنا! سبحانك، وهذه اللفظة محمولة على التعجب.
{هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي: افتراء، فالبهتان: أن تذكر أخاك بما يكره وليس فيه.
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ} [النور:17] ، يحذركم الله ويذكركم الله، {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} [النور:17] لا مع عائشة ولا مع غير عائشة، {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:18] .