للآية سببان للنزول والمعنى المستخلص منهما واحد.
السبب الأول: ما ورد من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم، لما قرأ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] ، قال سعد بن عبادة: يا رسول الله! -وكان النبي عليه الصلاة والسلام قد تلا هذه الآية في مجلس فيه مهاجرون وأنصار- لو وجدت رجلاً مع امرأتي أأتركه ولا أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء؟ فوالله -يا رسول الله- لا آتي بأربعة شهداء إلا ويكون قد قضى حاجته منها ثم انصرف) .
وفي الرواية الأخرى: (قال سعد: يا رسول الله! لو وجدت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح -يعني: ليس بعرض السيف إنما بحد السيف- فقال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار: انظروا ماذا يقول سيدكم! -أي: سعد بن عبادة فهو سيد الخزرج- فقالوا: لا تؤاخذه يا رسول الله، إنه رجل شديد الغيرة على النساء، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً -أي: لا يرضى أن يتزوج امرأة قد تزوجها رجل قبله- وما طلق امرأة قط وتزوجها أحد منا من شدة غيرته) ، فحاصل كلام سعد رضي الله عنه: والله -يا رسول الله- ما رددت أمر الله قط، ولكني نظرت إذا رجعت إلى بيتي فوجدت رجلاً مع امرأتي أأتركه وأذهب ألتمس الشهود؟ فسكت الرسول عليه الصلاة والسلام، فبينما هم على هذه الحال إذ جاء رجل من الأنصار مشهود له بالصدق والخير، شهد بدراً مع رسول الله عليه الصلاة والسلام وتخلف عن غزوة تبوك بلا عذر، فلما رجع الرسول صلى الله عليه وسلم ودخل الناس عليه يلتمسون المعاذير لتخلفهم دخل هو وقال: (تخلفت بلا عذر يا رسول الله) فمنع الناس من الكلام معه ومع صاحبيه مرارة بن الربيع وكعب بن مالك إلى أن نزل فيهم قوله تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة:118] .
الشاهد: أن هذا الرجل كان من المشهود لهم بالصدق والخير، وهو هلال بن أمية حيث دخل المجلس، فقال: (يا رسول الله! إني كنت في عملي فرجعت من عملي فرأيت رجلاً مع امرأتي، فرأيت بعيني -يا رسول الله- وسمعت بأذني -أي: رأى الفاحشة الكبرى- فلم أهيجه ولم أحركه فجئت إليك تقضي بما أراك الله.
فقال الأنصار: ابتلينا بما قال سعد بن عبادة، ابتلينا بما قال سعد بن عبادة.
فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هات البينة -أي: الشهود-، قال: ليس عندي بينة يا رسول الله.
قال: البينة أو حد في ظهرك) .
فحاصل كلامه: أنني لو كنت في الجاهلية ورأيت هذا المنظر لقتلتهما معاً ولكني صبرت ونقلت إليك الخبر، والرسول صلى الله عليه وسلم لا يجيب إذ هو مطبق لأمر الله لا يزيد على قول: البينة أو حد في ظهرك.
هلال من ثقته بالله ومعرفته بالله يقسم بالله أن الله سيبرئ ظهره، والأنصار رأوا هلال بن أمية وقد أخذ كي يجلد، فبكوا من أجله، فقالوا: الآن يجلد هلال بن أمية ثمانين جلدة وتسقط شهادته في الناس ويعد من الفاسقين.
وهلال ثابت واثق بربه يقسم أن الله سيبرئه، فأخذ هلال كي يجلد فنزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور:6-7] وهذه القصة وقعت لـ عويمر العجلاني، فقد جاء وقال: (يا عاصم! سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد مع امرأته رجلاً، إن سكت سكت على غيظ! وإن تكلم حددتموه -أي: أقمتم عليه الحد- وإن قتله قتلتموه! سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك، فذهب عاصم يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَكَرِهَ النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، فذهب عويمر إلى عاصم: فقال ماذا صنعت يا عاصم؟ قال: ما جئتني بخير، لقد كره النبي صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، فقال: والله يا عاصم لا أبرح حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب وسأله فنزلت الآيات) .
ونرجع إلى قصة هلال، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عند نزول هذه الآيات قال: (أبشر يا هلال! فقد أنزل الله ما يبرئ به ظهرك، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ائتوني بالمرأة.
فجيء بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب؟ فكلاهما أنكر، فبدأ بالرجل فقال له: أقسم أربعة أيمان بالله إنك من الصادقين، فأقسم أربعة أيمان بالله أنه من الصادقين، واستوقفوه عند الخامسة وقالوا له: يا هلال! ويحك عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وهذه هي الموجبة التي توجب عليك العذاب، فأقسم هلال أربعة أيمان بالله أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فاتجهوا إلى المرأة بعد ذلك وقالوا: أقسمي أربعة أيمان أنه لمن الكاذبين، فأقسمت أربعة أيمان بالله إنه من الكاذبين، فقبل الخامسة استوقفوها وقالوا لها: اتقي الله، هذه هي الموجبة التي توجب عليك غضب الله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فوضع يده على فيها حتى لا تسرع باليمين، فتلكأت ساعة وترددت هل تفضح قومها أم أن تقبل العذاب؟ ثم أقسمت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) فيعلم من القرائن أنها فعلت لكن ليس لرسول الله عليه الصلاة والسلام -مع أنه يعلم صدق صاحبه هلال، ومع أن قرينة الحال يدل على أنها زنت- أن يتقدم بين يدي ربه، بل يمضي أحكام الله كما أمره، فبعد الخامسة فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما، وهذا التفريق -تفريق الملاعنة- تفريق أبدي لا رجعة بعده أبداً عند جماهير المسلمين؛ لأنه لا يجتمع ملعون مع بريئة، ولا تجتمع مغضوب عليها مع بريء، فالتفريق بينهما أبدي.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فرقوا بينهما، وإن جاءت به خدلج الساقين نحيفاً سميناً -وكان هلال قد رماها برجل يقال له: شريك بن سحماء - فلا أراه إلا قد صدق عليها وقد كذبت، وإن جاءت به نحيفاً أو رفيع الساقين فلا أرى إلا أن هلالاً قد كذب وقد صدقت) وهذا مجرد رؤيا فقط، فجاءت به على نعت شريك بن سحماء، كما أن الغراب يشبه الغراب بالضبط، فقال عليه الصلاة والسلام -في بعض الروايات: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) فألحق الولد بالمرأة.
وآيات الملاعنة لم ترد إلا في هذه السورة الكريمة، وفي هذا الموطن الكريم، إلا أن هناك آية المباهلة ولكنها ليست بين الزوجين فقط، بل على العموم، وهي في سورة آل عمران.