قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] ، فليست فقط القصص هي التي أعرضوا عنها، وإنما عموم الآيات في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون، لا يتفكرون فيها ولا يتدبرون.
وقوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ) معناها: وكم، فالمعنى: كم من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون! فكم من آية في السماوات تدل على قدرة الله وعلى وحدانية الله سبحانه وتعالى، فثم رعد وبرق ونجوم وشمس وقمر ورياح كل ذلك في السماوات، ثم شمس وقمر دائبان، هذا يتبع هذا، ثم ليل ونهار هذا يطول وهذا يقصر، هذا يتداخل مع هذا، وهذا يتداخل مع هذا، ثَم شمس لها منظر عند غروبها، ومنظر عند شروقها، وهناك الأفق المبين كذلك آيات تدعوا إلى التدبر، {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:40] ، ثَم نجوم زينت بها السماء الدنيا، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك:5] .
ثَم سماء رغم اتساعها ليس فيها ثقب واحد، ليس فيها فرجة واحدة، وليس فيها تفطّر، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:3-4] ، سماء مرفوعة بغير عمد ترونها، يمسكها الله سبحانه وتعالى آيات تدعو إلى تدبر وتفكر ليلة باردة، وليلة حارة، وليلة ذات ريح شديد، وليلة أخرى ذات برد شديد، وريح باردة طيبة أمور يدبرها الله ويصرفها عز وجل.
سحب يتراكم بعضها فوق بعض غيث ينزل منهمراً أحياناً، وطل ينزل كذلك -وهو الندى- وطوفان يأتي من السماء جارفاً بإذن الله، وسحاب مسخر يسوقه الله إلى حيث يشاء ويريد فسحاب مسخر، شمس مسخرة، قمر مسخر، نجوم كذلك مسخرات، رياح مسخرات، قر وحر، للآيات تصريف يصرفه الله سبحانه وتعالى.
وكذلك في الأرض آيات تدعو إلى التفكر جبال رواسٍ، معادن كامنة في بطن الأرض، ذهب يستخرج، حديد فيه بأس شديد، فضة يتزين بها، بحار وأشجار كذلك أرض فيها من كل زوج بهيج، يخرج منها الحلو والحامض، الأحمر والأصفر والأخضر وسائر الألوان، صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، هذا لذيذ الطعم وهذا دون ذلك، وهذا فوق ذلك، وكل ذلك بقدرة الله، صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد، هذا له طلع نضيد، وهذا نجم وهذا شجر، هذه نباتات لها ساق، ونباتات ليس لها ساق، هذه نباتات زواحف، وهذه نخل باسقات شاهقات لها طلع نضيد، رزقاً للعباد وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج.
كذلك الحيوانات أسود ضارية مفترسة شرسة، ونسور ذات بأس شديد وبطش حديد، وعصافير تطير ضعيفة مستضعفة، وذباب أقل من ذلك وأحقر نمل ونحل، دواب هي فاسقات كحية وعقرب وفأرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وكغارب وكحدية، فهذه فواسق خمس تقتل في الحل والحرم.
وكذلك حيوانات مكرمة نهى نبينا محمد عن قتلها: النمل، والنحل، والهدهد، والصرد، فهذا طاووس شكله جميل، وذاك حمار صوته أنكر الأصوات هذا فيل ضخم الجسم إلا أنه بليد في الذهن هذا ثعلب ماكر، وهذا ديك يؤذن بالسحر، وينادي بالأسحار، وثَم قوم نيام وهذا ثعبان يزحف ويزعج، وهذه حية تفتك وتقتل، وفي باب مقابل حيوان أليف مألوف: شاة تحلب، وبقرة تسخر، وناقة تركب، كل ذلك يدبره الله سبحانه وتعالى، وكل هذا فيه دلالات وعبر وعظات.
هذا سمك في البحار، وهذه حيتان، وهذه تماسيح، وكذلك سمك آخر ضعيف يُفترس، أسماك بأنواعها وزواحف بأنواعها وضروبها وأشكالها وألوانها، والكل سيموت والكل سيفنى، والكل بينه قصاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) ، فالشاة ذات القرن التي نطحت الشاة التي ليس لها قرن يقتص منها يوم القيامة.
إنها أمور تدعو إلى التفكر والتدبر، انظر ذباب كثير، وبيضه وفير بالملايين، ثم إن عمره قصير، فيموت حيناً بعد حين بالملايين، لكن ثَم نسور بأسها شديد وعمرها مديد، ولكن بيضها يسير، فتخيل لو أن بيض هذه النسور كان كثيراً كالذباب ماذا كان يحدث للأرض ومن على وجه الأرض؟ لافترست النسور من على وجه الأرض، ولحل في الأرض الفساد، وكذلك الأسود والنمور، هذا حيوان مفترس لكنه قد يؤلف، وهذا حيوان مفترس آخر لكنه لا يؤلف، كل ذلك بتدبير وتقدير الله سبحانه.
عيون تتفجر من أحجار فيخرج منها الماء، أحجار تشقق فيخرج منها الماء، وورق التوت يخرج منه الدود فيخرج حريراً، وتقف عليه النحلة فتخرج عسلاً، وتأكل منه البقرة فتخرج لبناً وبعراً، يدبر ذلك كله ربنا سبحانه وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] .
هذه قبور قد حوت أجداثاً لقوم ظالمين كانوا يساكنوننا ويجالسوننا ويعاشروننا، قال الله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الصافات:137-138] ، وقال تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} [الحجر:76] ، أي: بطريق واضح يراه الناس المسافر والسائر.
{وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105] ، ولكن كما قال ربنا سبحانه: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] ، فيجمعون مع الإيمان بالله شركاً.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.