أعجب الملك بهذا التأويل إعجاباً شديداً، فأرسل ليوسف صلى الله عليه وسلم قائلاً: {ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:50] ، فلم يتعجل يوسف صلى الله عليه وسلم الخروج، بل قال لرسول الملك: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50] ، هكذا أراد يوسف صلى الله عليه وسلم أن يبرئ ساحته قبل الخروج، فأخذ من ذلك مشروعية دفع الشبهات التي ترد على الشخص، ولهذا أصل عن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بل أصول؛ فمن ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتته زوجته صفية بنت حيي تزوره في معتكفه، فقضت معه ساعة، ثم خرج معها يقلبها إلى دارها، وكان بيتها قريباً من دار أسامة بن زيد، فبينا هو على باب المسجد إذ مر به رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها صفية) ، فقالا: سبحان الله يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً، أو قال: شراً) ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفع الشبهة عن نفسه حتى لا يظن به أحد الظنون، فأبان للصحابيين الجليلين أن المرأة التي معه إنما هي صفية بنت حيي.
وكذلك أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يقضي بينهما في مسألة العسيف المشهورة، فقال أحدهما: (يا رسول الله! إن ابني كان عسيفاً عند هذا الرجل -أي: أجيراً عنده- فزني بامرأته، وإني قد أعطيت هذا الرجل مائة شاة ووليدة -أي: أمة فداء لابنه- ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني بغير ذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -وأقسم حتى يقذف في قلبيهما اليقين بالحكم الذي سيصدر- قال: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى: الشاة والوليدة رد عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس إلى امرأة هذا؛ فإن اعترفت فارجمها، فاعترفت فرجمها) .
ومن ذلك أيضاً: سرور النبي صلى الله عليه وسلم الزائد؛ فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسروراً تبرق أسارير وجهه من السرور، فسألته عائشة رضي الله عنها عن سبب سروره، فقال: (يا عائشة! أما شعرت أن مجززاً المدلجي نظر آنفاً إلى زيد وأسامة فقال: إن بعض هذه الأقدام لمن بعض) ، ومجزز هذا رجل قائف، أي: يقف الآثار، ويعرف قدم هذا من قدم ذاك، ويد هذا من يد ذاك، وكان زيد بن حارثة وابنه أسامة نائمين وغطيا أجسامها وبدت أرجلهما، وكان زيد -كما هو معلوم- أبيض شديد البياض، أما أسامة فكان أسود شديد السواد، فمن ثَم كان البعض يغمز في أسامة، فأتى مجزز المدلجي ورجل أسامة بادية وهي سوداء، ورجل زيد بادية وهي بيضاء، فقال مجزز: أشهد أن هذه الرجل من تلك الرجل، أي: أن هذا ولد لذاك، فسر النبي صلى الله عليه وسلم لدفع الشبهة عن أسامة بن زيد رضي الله عنه.
فكهذا ينبغي للشخص -خاصة من سيتقلد منصباً كيوسف صلى الله عليه وسلم- أن يبرئ ساحته حتى لا يتهم، وأن يبعد الظنون عن نفسه، فهذا مقصد شرعي، فلذلك لما أرسل الملك رسوله قائلاً: (ائْتُونِي بِهِ) ، لم يتعجل يوسف ولم يتسرع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثنياً عليه في هذا الصنيع: (لو لبثت ما لبث يوسف لأجبت الداعي) ، وفي رواية: (ثم أتاني الداعي لأجبته) ؛ ففي هذا ثناء على يوسف عليه الصلاة والسلام، ومن العلماء من يقول: إن الشخص إذا لم يكن يتحمل السجن وأتاه الداعي فليخرج، وحمل حديث النبي صلى الله عليه وسلم على هذا.