نرجع فنقول: إن علامات الإحسان كانت بادية على يوسف صلى الله عليه وسلم مع ما هو فيه من جمال وعقل صلى الله عليه وسلم، فمن ثم قال الفتيان: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، فقال الصديق يوسف صلى الله عليه وسلم معلماً وبالله مذكراً: {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} [يوسف:37] ، أي: أي طعام سيأتيكم سأخبركما به، ستأكلان غداً كذا وكذا، وستأكلان ظهراً كذا وكذا، وعصراً كذا وكذا فإن قال قائل: هذا علم غيب، وعلم الغيب لا يعلمه إلا الله، فما هو وجه قول الصديق يوسف لهما هذا القول؟!
وصلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى يستأثر أنبياءه ببعض أنواع العلوم التي لا يستأثر بها غيرهم، فالله يستأثر أنبياءه ويخصهم ببعض أنواع العلوم مما هو آت مما لا يعلمها غيرهم، إكراماً من الله لهم، ودليل ذلك من كتاب الله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن:26-28] ، فقول عيسى عليه السلام: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتلوه من كتاب حين نزل عليه: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ} [الروم:2-4] ، وإخبار النبي بأمور لم تكن وقعت، فوقعت بعد ذلك ما أخبر صلوات الله وسلامه عليه، فمن ثم قال يوسف عليه السلام: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} [يوسف:37] ، أي: ليس من عند نفسي، إنما هذا العلم من الله، فهو يخبرهم عن الله، ويعلمهم بالله، فهم قوم يجهلون ربهم، ويجهلون معرفة الله، فقال لهم يوسف بالله معلماً ومذكراً: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [يوسف:37] .