باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] .
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) .
أي: لا يغفر للعبد إذا مات على الشرك، أما إذا أشرك العبد بالله، وتاب من هذا الشرك؛ تاب الله عليه، وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أهل شرك وعبّاد أوثان، فلما تابوا من الشرك تاب الله عليهم.
إذاً: فقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} أي: إذا مات العبد على الشرك، أما إذا تاب منه قبل موته غفر له، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يهدم ما قبله، والتوبة تهدم ما قبلها) وعلى ذلك فلا تعارض بين هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) ، وبين قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ، فقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) تتنزل على أحد وجهين: الأول: أن الله يغفر الذنوب جميعاً بما فيها الشرك إذا تاب العبد منها في الدنيا.
والوجه الثاني: أن الله يغفر الذنوب جميعاً إذا شاء في الآخرة إلا الشرك إذا مات عليه العبد، والله أعلم.
فتقدم أن من العلماء من قال: إن هذه الآية: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) من أعظم آيات الرجاء في كتاب الله عز وجل، وبها يستدل على القائلين: بأن القتل لا يغفر، فإن القتل كبيرة دون الشرك.
ويستدل بها على الخوارج القائلين بالتكفير بالمعاصي.
وأفادت الآية -أيضاً- أن الله عز وجل قد يغفر للعبد وإن لم يقل العبد: أستغفر الله، فإنك قد تذنب -أيها العبد- ذنباً ولا تستغفر الله منه ومع ذلك -أي: مع عدم الاستغفار- يغفر الله عز وجل لك تفضلاً منه سبحانه، وهذا مبدأ من مبادئ أهل السنة والجماعة وأصل من أصولهم.
فأهل السنة يقولون: إن الله عز وجل قد يغفر للعبد إن شاء، وإن لم يتب العبد من هذا الذنب، وإن لم يقل العبد: أستغفر الله، وقد ورد ما يؤيد ذلك في قصة البغي التي كانت تزني فمرت يوماً بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش فنزعت موقها فملأته فسقته، فشكر الله لها صنيعها فغفر لها، وهي لم تقل: أستغفر الله.
واشترط فريق من المعتزلة أن يقول العبد: أستغفر الله، وليس على ذلك الاشتراط كبير دليل.
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ} [النساء:116] ، الضلال: هو الذهاب عن القصد.
{ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] أي: ذهب عن طريق الصواب مذهباً بعيداً، يعني: صار في اتجاه بعيد عن الصواب، فالضلال الذهاب والبعد عن القصد.
ويطلق الضلال على التفرق والتيه كما تقدم: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة:10] أي: إذا متنا وتفرقت عظامنا في الأرض.