(وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً) أي: بطريق الخطأ.
(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً) فذكرت الكفارة.
فإن قال قائل: إن الله وضع الخطأ والنسيان والاستكراه عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فإن الله تبارك عندما قال المؤمنون: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] قال الله في الحديث القدسي: (قد فعلت قد فعلت) ، فلماذا يؤاخذ المؤمن هنا بقتل الخطأ وفرضت عليه كفارة؟! وأيضاً قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يصح من شواهده أنه قال: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ، وإن كان في إسناده بعض المقال إلا أنه يشهد له قوله تعالى: (قد فعلت) في الحديث القدسي.
فالإجابة على هذا: بأن إثم قتل الخطأ مرفوع عن الشخص لكنه ألزم بنوع كفارة.
وقد يقول قائل: إنها ابتلاء من الله له يبتليه بأن يكفّر كفارة دنيوية، فهو لم يلزم بالاستغفار؛ لأنه لم يرتكب إثماً في الحقيقة في الأصل، إنما ألزم بكفارة، وقد يقول قائل: إنها من باب معاونة أهل المقتول والمساهمة في تحرير رقاب أهل الإيمان، وليس لها تعلق بالإثم اللاحق بالقاتل الخطأ.
وهذا وجه قوي، والله أعلم.
ومن أهل العلم من قال: إن هذه الصورة مستثناة من المؤاخذة بالخطأ، فيكون الأصل أن المسلم لا يؤاخذ بالخطأ، لكن وردت أدلة تستثني بعض صور الخطأ التي يؤاخذ بها المسلم ويحاسب عليها، فلَزِمَنَا المصير إليها لوجود الدليل من الكتاب أو من السنة، وشأن ذلك شأن أي عام في الكتاب أو السنة، فهناك عمومات تأتي في كتاب الله وفي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام وتستثنى منها أمور، فليكن هذا من العام، أي: ليكن عدم المؤاخذة بالخطأ عام، استثني منه قاتل الخطأ بأن فرضت عليه كفارة بنص في كتاب الله، فلا يكون هناك معنى لإنشاء خلاف بين الآية وبين الآية الأخرى، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) قيدت الرقبة هنا بأنها مؤمنة، وفي آيات أخرى لا تتعلق بالقتل أطلقت الرقاب، قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11] أي: هذا الكافر ما اقتحم العقبة، ما هي العقبة؟ قال فريق من العلماء: إنها جبل في النار.
ومنهم من قال: إنها الصراط.
وهذه العقبة يقتحمها الناس بأعمالهم، فينقم الله على الكافر المجادل فيقول: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، أي: ما عمل أعمالاً تؤهله لاقتحام العقبة، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) ، تعظيم لهذه العقبة {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13] ، أي: لم يقتحم العقبة بفك رقبة، فالرقبة هنا أطلقت ولم تقيد بأنها رقبة مسلمة ولا رقبة كافرة، فبعض أهل العلم يحمل هذا الإطلاق على المخصص الوارد في آيات أخرى، وبعضهم -ورأيهم أسلم- يقول: إذا أطلقت الرقبة نطلقها، وإذا قيدت الرقبة نقيدها.
فمثلاً: قال تعالى في شأن كفارات الأيمان: {َفكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] ، ففي اليمين لم تقيد الرقبة بأنها مؤمنة، لكن في القتل قيدت الرقبة بأنها مؤمنة {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] ، فيشترط في الرقبة -أي: العبد أو الأمة- أن يكونا مسلمين، {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} [النساء:92] أي: مدفوعة، {إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] إلى أهل المقتول.
وهذه الدية مسلمة فمن؟ ومن الملزم بها؟ هل القاتل أو العاقلة؟ إذا قتل شخصٌ شخصاً خطأً فهل يلزم القاتل أن يسدد الدية وحده بمفرده، أو أن رجال قبيلته يساهمون في هذه الرقبة، فالدية في حالة القتل الخطأ ليست على القاتل فحسب إنما هي على العاقلة وهم رجال القبيلة، فكلٌ يدفع قسطاً ويؤدون عن الشخص في حالة قتل الخطأ، لكن في حالة قتل العمد فإن الجاني هو الذي يتحمل، فإن ساعده أهله بشيء فلا مانع من ذلك، لكن الذي يُلزم بدفع الدية هو القاتل.
والدية قدرها مائة من الإبل.
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] أي: يعتق عبداً مسلماً أو أمة مسلمة، وإضافة إلى ذلك يدفع ويسلم دية إلى أهله، ويقدرها الناس الآن أو في بعض بلاد العرب بما يقارب مائة وخمسين ألف ريال سعودي.
وصور القتل الخطأ تتعدد وتتنوع، ففي بعض البلاد تجري الأحكام أنك إذا كنت تقود سيارة فصدمت رجلاً في الطريق وقتلته، فتكون قد قتلت خطأً، وتلزم أنت مع العاقلة بسداد الدية إلى أهله، وطبعاً قوانين المحاكم التي تجري في المحاكم لا تسقط عليك أي شيء من الناحية الشرعية إنما هي في وادٍ آخر، إلا إذا عفا عنك أهل المقتول خطأ فالحمد لله، وبقي عليك فقط تحرير الرقبة المؤمنة.
ومن صور القتل الخطأ: أن تلقي حجراً مثلاً من فوق السطح -من فوق سطح البيت مثلاً- ألقيت أحجاراً أو أخشاباً على أناس بطريق الخطأ فماتوا فتتحمل أنت ديتهم، وإذا كنت تقود سيارة وصدمت شخصاً فإنك تتحمل أنت أيضاً الدية، هذه بعض صور القتل الخطأ، والصور تتعدد.
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92] ، ففيه ندب إلى الصدقة، وحثٌ من طرف خفي لأهل الميت على الصدقة، فإذا كان المقتول عمداً قد حث الله أهله على الصدقة، فأهل المقتول خطأً من باب أولى، فالمقتول عمداً يقول تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ} [المائدة:45] إلى قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة:45] ، أي: إذا قتل أخوك أو قتل أبوك ثم عفوت عن القاتل فقد كفرت ذنوبك وخطاياك، فإذا كان الله ندب إلى العفو في حالة القتل العمد، فلأن يندب إلى العفو في القتل الخطأ من باب أولى؛ لأن القاتل خطأ ما تعمد أن يقتل.
والفقهاء يفرقون أحياناً بين قاتل العمد وقاتل الخطأ بناءً على الآلة التي استعملت في القتل، وهذا من ضمن جملة أشياء يفهمها إخواننا المختصون بذلك، ولعل الشيخ صالح بن عبد الجواد حفظه الله تعالى يتحفنا في هذا الجانب، وما هو سائرٌ في المحاكم في هذه الأيام، فبعضهم يفرق في الآلات، فإذا ضرب شخصٌ شخصاً بحجر مثلاً فقتله به، وشخص ضرب شخصاً آخر برصاص وأطلق عليه رصاصة، فالأولى عمد والأخرى قد تكون خطأ.
ومن اللطائف التي سيقت في هذا الباب: أنه في بعض السجون في بعض البلاد العربية أتوا برجل تشاجر معه آخر فضربه بالفأس فقتله، فأخذوه وأثبتوا في محضر الشرطة: بمَ قتلته؟ قال: بالفأس، فدخل السجن انتظاراً للمحكمة، فسأله السجناء والخبراء بالمشاكل وقالوا له: ما هي جريمتك؟ قال: قتلت شخصاً بالفأس، قالوا له: إنك إن قلت للقاضي: قتلته بالفأس، سيحكمون عليك بالإعدام؛ لأنك قاتل عمد، ولكن إذا سألك القاضي، فقل: قتلته بيد الفأس ليس برأس الفأس -أي: بالخشبة- فقال: لقد اعترفت، قالوا له: إذا جاء وقال لك: لمَ اعترفت؟ فقل له: إن إخوة يوسف قالوا: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [يوسف:82] وما أرادوا أحجار القرية إنما أرادوا السكان، فقل: أنا قلت بالفأس وأريد يد الفأس، فجعلوها قارنة لصرف الحد عنه وانتقاله من العمد إلى شبه العمد.