أقسم الله بهذا البلد، وبـ {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} على شيء، وهو: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] كما أسلفنا قد يأتي ذكر الإنسان ويراد به الخصوص، وأحيانا يراد به العموم، فقال الله سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان:1] وهو آدم {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} [الإنسان:2] وهم ذريته، آدم لم يخلق من نطفة، هنا يقول الله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] المراد به عموم الإنسان، فكل بني آدم خلقوا في كبد، والكبد: المشقة والتعب والنصب والإرهاق، ومنه قول القائل: (كبّدت العدو الخسائر) أي: ألحقت به خسائر.
قال الله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} فما هو هذا الكبد؟ قالوا: التعب والمشقة كما أسلفنا، فالإنسان منذ أن خلق؛ والتعب والمشقة ملاحقة له، فعندما يخرج من بطن أمه يتلقفه الشيطان فيطعن في خاصرته فيصرخ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا ويطعن الشيطان في خاصرته حين يولد فيستهل صارخاً إلا مريم وابنها) الحديث، ثم يبقى يجوع حيناً ويشبع حيناً، ثم تأتيه آلام الختان، وتأتيه آلام قطع السرة، وتأتيه آلام الفطام ومنعه من الثدي، وهذا من أشق الألم عليه، ويكبر شيئاً ما فيبتلى بأصدقاء سوء يضربونه ويظلمونه، ويذهب إلى المدرسة فيبتلى بالمعلم: لماذا تركت الواجب؟ ويضربه، ويذهب إلى البيت فيكلفه أبوه بأعمال إن تخلف ضربه، ويستمر فيه الكيد يمرض! يتعب! يشاك! يقوم، وهكذا لا تكاد تجد راحة حلت به إلا وتبعها بلاء، ولا تجد فرحاً نزل به إلا وتبعه حزن، وهكذا، تبدأ مشاكل الدراسة والنجاح والرسوب والمجموع وغير ذلك.
ثم ينتهي من الدراسة فيبحث عن الوظيفة، ويبحث عن زوجة، فيتزوج ويحمل هم الأولاد والزوجة، وربما يبتلى بقوم ظالمين، إذا التزم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تستمر به البلايا في كل حياته، يشيب وبعد أن يشيب يبدأ بالانحناء والتدهور، كما قال القائل: يسر الفتى طول السلامة والبقاء فكيف ترى طول السلامة يفعل يرد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا ما رام القيام ويحمل يأتي ليقف فيسقط بعد أن كان شابا قوياً، وهكذا! يبتلى بأمراض الشيخوخة التي لا تكاد تعالج إلا إذا أذن الله، ثم يبتلى بتلقف الملائكة له، هل تتلقف له بالرحمة أو تتلقف له بالعذاب؟! ويبتلى بفراق الأهل والأحباب ويدخل القبر ويبتلى في القبر ابتلاء أشد من ابتلاء المسيح الدجال، وفتنة أشد من فتنة المسيح الدجال، ثم كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس:51] تدنو الشمس من رأسه يوم القيامة وتقترب، يبتلى بالموازين التي تقام ويوزن فيها الأعمال، يبتلى بالمرور على الصراط، وما أدراك ما الصراط؟! ويبتلى بقصاص المظالم بعد مروره على الصراط، ابتلاءات تلو ابتلاءات إلى أن يستقر إما في جنة، وإما في نار، فهكذا خلق الإنسان.
أقسم الله سبحانه وتعالى على ذلك، فالإنسان لا يملك لنفسه من هذه الأمور كلها شيئاً، ومن ثم يعلم أن الأمور مقدرة، وأن أقدار الله سبحانه وتعالى تجري عليه رغماً عنه، لا يريد الشخص أن يكون فقيراً، ولا أن يخسر، ولكن يخسر رغماً عنه، ويمرض رغماً عنه، لا يريد الشخص أن يكون تعيساً، ولا أن يكون عقيماً، لكن رغماً عنه قدر الله ينفذ فيه شاء أم أبى، كلنا يكره الموت، ولكننا كلنا سنموت، فهذا بعض ما ورد في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] .
كل بني آدم على هذا النحو، لا ينجو منهم رئيس ولا مرءوس، بل تجد هم الرئيس أكبر من همك آلاف المرات، لا يكاد ينام نوماً هادئاً هنيئاً: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} ، يتكبد المشاق في جمع المال، ثم يتكبد المشقة في حراسة هذا المال!