Q ورد عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفعال وأقوال لم يفعلها النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمر بها، بل نهى عن بعضها، فكيف يأتون بأمر جديد لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم.
نرجو التوضيح؟
صلى الله عليه وسلم ننصح القارئ بقراءة كتاب: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لما فيه من خير في هذا الباب.
فالصحابي قد يأتي بأمر لم يفعله رسول الله عليه الصلاة والسلام بل نهى عنه لأمور: إما أنه خفي عليه أمر رسول الله، فيكون الرسول أمر بأمر ولم يسمعه من رسول الله، بل استمر على ما علم من علوم الشرع ولم يبلغه الخبر عن رسول الله.
من ذلك: قول عمر في شأن أبي: (أقرؤنا أبي إلا أننا ندع من لحن أبي) ، يعني: نترك كثيراً من قراءات أبي بن كعب مع أنه أعلمنا بالقراءات؛ لأنه يقول: لا أغير شيئاً سمعته من رسول الله، والله يقول: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] فـ أبي سمع قراءات من رسول الله، والصحابة علموا أنها منسوخة لكن أبي يقول: أنا مصر على الذي سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا وجه ذلك، فقد تخفى السنة على الصحابي، فيعمل الصحابي برأيه وهو لا يعلم الخبر، مثال ذلك: قصة بروع بنت واشق امرأة عقد عليها رجل ولم يفرض لها صداقاً، أي: مهراً، ثم قبل البناء مات الزوج، فوقعت مسائل مشكلة: أولاً: هل لها صداق أو ليس لها صداق؟ ثانياً: هل ترث أو لا ترث؟ ثالثاً: هل تعتد أو لا تعتد؟ فوقعت بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم قضية مماثلة لهذه القضية فذهبوا إلى ابن مسعود في شأنها، فقال: أقضي فيها برأيي، فإن كان خطأً فمن نفسي ومن الشيطان، وإن كان صواباً فمن الله، والله ورسوله منه بريئان: أقضي أن لها مهر نسائها اللاتي هن شبيهات بها، فإن كانت بنت ملك فمهرها مثل مهور بنات الملوك، وإن كانت بنت عبد فمهرها مثل مهور العبيد، وإن كانت من أوساط الناس فمهرها مثل مهور نساء أوساط الناس من غير وكس -يعني: بخس ولا شطط- يعني: ارتفاع -مهر متوسط وهذا أصل في مهر المثل.
قال: وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن سنان فقال: (أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق مثل هذا القضاء) ، فقال: الحمد لله الذي وفقني إلى سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وصحابة آخرون لم يبلغهم خبر معقل بن سنان فقالوا: لا تعتد، قياساً على مطلقة التي لم يدخل بها زوجها، لأن الله قال في المطلقة التي مات عنها زوجها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:49] يعني: عقدتم عليهن {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب:49] يعني: قبل الدخول بهن {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فليس عليها عدة.
وبعض الصحابة لما لم يجد في الباب خبراً عن رسول الله بدأ يفكر، فقال: أقيسها على المطلقة، والقياس قد يصيب وقد يخطئ، والذي يخطئه هو النص، فهذا صحابي أفتى أنها لا تعتد ولا ترث، كما أن المطلقة التي لم يدخل بها زوجها لا تعتد لا ترث، فاجتهد الصحابي وهو مأجور على اجتهاده، لكن المجتهد المصيب له أجران، فهذا نموذج من النماذج التي تبين أن الصحابي قد لا يبلغه الدليل من الكتاب أو من السنة.
نموذج آخر: قد يبلغه الصحابي الدليل، ولكنه يرى أن الدليل له نازلة معينة وملابسات معينة، مثال ذلك نهي عمر رضي الله عنه عن متعة الحج، فالصحابة لما أتوا مع رسول الله إلى الحج كان منهم: القارن، والمفرد، والمتمتع، فلما اعتمر الصحابة أمر الرسول عليه الصلاة والسلام من لم يسق الهدي معه أن يتحلل ويجعلها عمرة فتعجب، الصحابة رضوان الله عليهم من ذلك! لما ترتب في أذهانهم من قبل أن الذي يعتمر في أشهر الحج فاجر من أكبر الفجار، كما عند أهل الجاهلية فكانوا يقولون: إذا برئ الدبر -يعني: الجروح التي في ظهر الدابة- وعفا الأثر، ودخل صفر، حلت العمرة لمن اعتمر.
فلما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالعمرة تردد الصحابة، ووقفوا مذهولين من أمر الرسول لهم بالتحلل بالعمرة، فقالوا: يا رسول الله! كيف نتحلل من العمرة؟ -أي: كيف نذهب إلى منىً ومذاكيرنا تقطر منياً من النساء- فشدد الرسول في الأمر، وأمرهم أمراً حازماً بالتحلل، وقال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة، فقام رجل وقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا -يعني: التحلل بالعمرة- أو للأبد؟ قال: بل لأبد الأبد) أي: دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (بل لأبد الأبد) ، خفي على أمير المؤمنين عمر، فكان رضي الله عنه ينهى الناس عن التمتع في الحج، وكان يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بالتمتع في أشهر الحج كان خاصاً في زمان رسول الله، وهذا رأيه، وصحابة آخرون لم يوافقوه، مثل: علي، وأما عثمان رضي الله عنه فقد سلك مسلك عمر رضي الله عنهم، فقال له علي: كيف تنهى عن شيء فعلناه مع الرسول؟ قال: دعنا عنك، قال: كيف أدعك؟ لبيك عمرة في حجة.
فهنا عمر رضي الله عنه اجتهد، وظن أن هذه الواقعة خاصة بزمن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعلي رضي الله عنه رأى أنها لزمن رسول الله ولغير زمن رسول الله، والله يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196] .
هذه نماذج من المسائل التي تختلف فيها وجهات النظر.
ومن أهل العلم من رأى أن الأمر بالعمرة أمر إيجاب في كل الأزمان وقال: التمتع واجب على كل المسلمين، وليس هناك إفراد ولا قران، وهذا قول مرجوح؛ لأن من الصحابة من حج مفرداً، ومنهم من حج قارناً، والرسول حج قارناً، ومنهم من حج متمتعاً، والله يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ} [البقرة:196] يعني: أن هناك من لم يتمتع.
إذاً ما معنى: دخلت العمرة في الحج؟ (دخلت) أي: أصبحت مع الحج لمن شاءها إلى يوم القيامة، وليست ملزمة، بل من شاءها إلى يوم القيامة، وهذا هو الذي فهمه كثير من أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام.
إذاًَ: قد يخفى الدليل على الصحابي، وقد يبلغه ولكن يفهمه على غير وجهه، وهناك جملة مسائل كثيرة في هذا الباب، والله أعلم.