جزاء المؤمنين في الآخرة

قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] اشتملت السورة على ثلاثة أصناف: فجار، وأبرار، ومقربون، كما اشتملت سورة الواقعة على الأقسام الثلاثة: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:7-11] وهنا في هذه السورة ثلاثة أصناف: الفجار والأبرار والمقربون.

والأبرار في كثير من الأحيان تأتي بمعنى المقربين، يعني إذا جاء ذكر الأبرار في سياق مستقل دخل فيه المقربون كما قال أهل الإيمان: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193] فالأبرار هنا شملت المقربين وشملت أصحاب اليمين، لكن إذا جاء ذكر الأبرار مقترناً بذكر المقربين يكون الأبرار أنزل درجة من المقربين، فالله سبحانه وتعالى يقول: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] إلى قوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [المطففين:22] .

{عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] الأرائك هي الأسرة، والأسرة جمع سرير، فمعناها الأسرة في الحجال، والحجل جمع حجلة، والحجلة تعني عند الناس في الدنيا الناموسية يعني: الأسرة عليها ناموسية أو عليها خيمة فتسمى الأسرة في الحجال، فهذه الأريكة.

{عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ينظرون إلى ماذا؟ ينظرون إلى إخوانهم في الجنان، وأحياناً لتتميم النعمة يطلعهم الله سبحانه وتعالى على بعض قرناء السوء وهم في النار، يعني الرجل الذي في الجنة أحياناً يطلع على منظر في النار حتى يشكر نعمة الله عليه كما في الحديث: (هذا مقعدك لو مت على غير الإسلام) وفي الآية الكريمة {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات:50-51] من أهل الجنة اذكروا يا أصحابي {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات:51] أي: كان لي صاحب ملحد في الدنيا، وهذا الصاحب الملحد كان يقول لي ماذا يا جماعة؟ {أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات:52-53] أي: مجزيون ومحاسبون، كان لي في الدنيا صاحب ملحد قرين سوء يقول لي: لا تصدق أبداً هذا الكلام الذي يقولونه أنك ستحاسب، وبعد أن تكون تراباً وعظاماً تبعث! فيريه الله صاحبه هذا في النار قال الله سبحانه: {فَاطَّلَعَ} [الصافات:55] أي: فنظر {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصافات:55] يعني في وسط الجحيم، السواء هنا: الوسط كما قال حسان: يا ويح أصحاب النبي ورهطه بعد المغيب في سواء الملحد فالسواء: الوسط {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ) [الصافات:55-56] أي: والله {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات:56] يعني كنت ستوقعني في مصيبة وتهلكني {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات:57] يعني كنت سأنال نفس الجزاء معك لولا أن الله عز وجل منَّ علي.

فقوله سبحانه: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] ينظرون إلى ما هم فيه من النعيم، وينظرون إلى إخوانهم المؤمنين، وينظرون أحياناً إلى من في النار حتى يزداد شكرهم وحمدهم لله سبحانه وتعالى.

{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] يعني أثر النعمة ظاهرة على الوجه، فقد تجد شخصاً أثر النعمة ظاهرة على وجهه، وآخر أثر الشقاوة ظاهرة على وجهه في الدنيا، فقد ترى أبناء الملوك أو المنعمين بادية عليهم أثر النعمة، والأشقياء كذلك، فأهل الجنة تعرف في وجوههم نضرة النعيم.

{يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25] الرحيق: الخمر، والمختوم فيه أقوال: أحد الأقوال أن مختوم أي: مغلق بختم، يعني مغلق تماماً لم يقترب منه أحد (رحيق مختوم) .

{خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين:26] يعني: إذا شربته لم تشعر بعد شربه برائحة الخمر السيئة إنما يشم منك بعد شربه رائحة المسك، فإن قال قائل معترضاً على هذا القول: إن الله سبحانه وتعالى وصف شراب الجنة بأنه أنهار وليس في أكواب، ففي شراب الجنة: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ} [محمد:15] فكيف تقول: إنها كئوساً مغلقة وهي أنهار مفتوحة؟ الإجابة: إنه لا يمتنع أبداً أن يكون هناك أنهار من الخمر وأيضاً كئوس مغلقة، الذي يريد أن يشرب من النهر شرب، والذي يريد أن يشرب من الكأس المغلق شرب، لا مانع أبداً من أن تتعدد صنوف النعم يوم القيامة، هذا القول الأول في تفسير المختوم، يعني: مغلق لم يقترب منه أحد، وبعد أن تشربه تشعر برائحة المسك.

ومن العلماء من قال: هو مغطى في الأصل بطبقة مسك، أي: الغطاء الذي غطي به مسك إذا جئت تفتحه وجدت ذلك.

ومنهم من قال: ختامه مسك أي: ممزوج، ففسر (مختوم) بـ (مخلوط) .

{وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] أي: في مثل هذا النعيم ينبغي أن يكون التنافس كما قال تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] فلا يكون التكالب على الدنيا والتنافس في الترقية بل {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} .

{وَمِزَاجُهُ} [المطففين:27] أي: خليط الرحيق {مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:27] يعني: هذا الخمر مخلوط بشيء آخر غير المسك، {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين:27] يعني: مخلوط بشراب من تسنيم، وما هي التسنيم؟ قال الله سبحانه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} [المطففين:28] يعني: يشرب منها، فالباء مع من تتبادلان، وأحرف الجر تتناوب.

فهناك عين يقال لها تسنيم، هذه العين -التي هي التسنيم- هي شراب المقربين خاصة، لكن يؤخذ منها شيء ويصب على الرحيق ويعطى الرحيق لأصحاب اليمين، فكما قال ابن مسعود وغيره: يشرب بها المقربون صرفاً يعني خالصة، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً، يعني الأبرار الذين هم أصحاب اليمين يسقون من رحيق مختوم مزاجه -أي: خليطه- من تسنيم، مثلاً تشرب في الدنيا الشاي على اللبن أو الشاي فقط، اللبن مثلاً للمقربين والشاي لمن دونهم، ونحو هذا المعنى ورد في سورة الإنسان {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا} [الإنسان:5] أي: خليطها {كَافُورًا} [الإنسان:5] ما هو الكافور؟ {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] يعني: المقربين، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6] .

قال الله سبحانه: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا} [المطففين:28] أي: منها {الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:28] وهم أصحاب أعلى الدرجات في الجنان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015