{عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] أي: إذا انفطرت السماء، وانتثرت الكواكب، وفجرت البحار، وبعثرت القبور، في هذه الأثناء كل نفس تعلم ما قدمته.
وما أخرته.
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) ما هو الذي قدم؟ وما هو الذي أخر؟ من أهل العلم من قال: إن الذي قدم هو العمل الصالح، والذي أخر هو العمل السيئ.
ومنهم من قال: إن الذي قدم وأخر هو العمل الصالح؛ لكن العمل الصالح الذي قدم هو العمل الصالح الذي عمله العبد في دنياه، أما الذي أخر فهو العمل الصالح الذي يلحق العبد بعد موته من سنن حسنة سنها: من مساجد لله بناها، ومن أفعال بر يصله ثوابها بعد موته كعلم نافع، أو صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له.
فهذان قولان مشهوران في تفسير قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار:5] : الأول: أن الذي قدم هو العمل الصالح، والذي أخر هو العمل السيئ.
والثاني: أن الذي قدم هو العمل الصالح الذي عمله الشخص في حياته، والذي أخر هو العمل الصالح الذي يلحق الشخص بعد مماته.
{يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] غرك معناها: خدعك ومناك وسول لك، فالمعنى: يا أيها الإنسان! من الذي خدعك وحملك على معصية الله سبحانه وتعالى؟! يا أيها الإنسان! ما هو الذي سول لك معصية الله عز وجل؟! {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] ما هو الذي غر الإنسان بربه الكريم؟ لأهل العلم ثلاثة أقوال في هذا: القول الأول: أن الذي غره بربه هو الشيطان كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] وثم أقوال أخر: أن الذي غره هو الحياة الدنيا بما فيها من متاع وأماني وملاهٍ هذا قول.
القول الثاني: وهو المنقول عن الفضيل بن عياض وسئل: يا فضيل! لو وقفت بين يدي مولاك سبحانه وتعالى وسألك: عبدي ما غرك بي؟ ماذا كنت تقول؟ قال: أقول: غرتني ستورك المرخاة، أي: سترك علي غرني.
القول الثالث: أن الذي غرهم هو عفوه عنهم سبحانه وتعالى.
القول الرابع: أن الذي غرهم هو النعيم الذي غمرهم الله فيه، فغمروا في النعيم حتى نسوا لقاء الله سبحانه وتعالى كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا} [الفرقان:17-18] يعني: غمرتهم في النعيم حتى أنساهم هذا النعيم الذكر؛ فكانوا قوماً هلكى، لكن الذي عليه الأكثرون أن الذي غرهم هو الشيطان، والثاني: أن الذي غرهم هو عفوه سبحانه وتعالى، وثم قول ثالث: ما غرك بربك الكريم؟ فيقول القائل: غرني كرم الكريم.
ومن العلماء من قال: إن هذه الإجابة يقولها أهل الإيمان إذا سئلوا: ما غركم بالله؟ فيقولون: غرنا كرم الكريم.
هذه أوجه كلها مذكورة في تفسير قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6] .
إن قال قائل: لماذا أُتي بلفظ (الكريم) في هذا الموضع والموقف موقف عتاب؟ فالإجابة: أن الشخص في الحياة الدنيا إذا كان هناك شخص يكثر من إعطائه وإكرامه، وإغداق المال عليه، وإغداق النعم عليه، فجدير بهذا المعطى إذا كان سليم الفطرة على الأقل أن يستحي من هذا الذي أعطاه ولا يعصي له أمراً، فأتي بصفة الكريم توبيخاً للعبد الذي غُر بربه سبحانه وتعالى، كيف اغتررت بربك وهو كريم قد أغدق عليك من كل أنواع النعم؟ صحة أنعم بها عليك! مال أنعم به عليك! إيمان أنعم به عليك! أولاد أنعم بهم عليك! نعمٌ لا يحصيها إلا هو! سمع وبصر وفؤاد وأرجل وأيد! نعم لا يحصيها إلا هو، فهذا الكريم الذي أنعم عليك بهذا جدير بأن يستحيا منه، فتحمل على نوع توبيخ للمغرور الذي غره الشيطان.
{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار:7] أما عدلك؟ أي: جعلك معتدل القامة، فجل الدواب من حيوان وطيور وجهها في الأرض دائماً، بينما أنت سوي قائم، كما قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] .
(الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ) جعلك سوياً سليم الأعضاء، لم يجعل لك يداً طويلة والأخرى قصيرة، ولو شاء لفعل ذلك، لم يجعل لك عيناً ناتئة وأخرى داخلة، لم يجعل لك أذناً طويلة وأخرى قصيرة، لم يجعل لك رجلاً طويلة وأخرى قصيرة، لم يجعل لك أصبعاً يفوق الأصابع الأخرى بمراحل، ولكنها بنان خلقها الله على حال واحدة نعمة منه وفضل، فقد سواك سبحانه وتعالى.
{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:8] فلو شاء لركبك جميلاً وصورك جميلاً، ولو شاء لصورك دميماً لو شاء صورك قصيراً أو طويلاً أو نحيفاً أو سميناً لو شاء جعل شعر رأسك قططاً أو جعله سبطاً، هو الذي يصور سبحانه وتعالى كيف يشاء، لو شاء جعلك شبيهاً بأعمامك، ولو شاء جعلك شبيهاً بأخوالك، ولو شاء لنزعك عرق إلى جد بعيد، هو الذي يفعل ما يشاء لو شاء لجعلك ذكياً، أو غبياً لو شاء لجعلك عاقلاً أو مجنوناً، هو يختار سبحانه وتعالى.