يقول تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس:33] والصاخة: اسم من أسماء القيامة، وهي التي تصخ أسماع الناس، أي: تصيبهم بالصمم ولكن لا يصموا؛ لأن الله أراد لهم أن يسمعوا، فصوتها يصم أهل الدنيا لو كانوا يسمعون، لكن تأتيتهم الصاخة فيسمعون الصوت، والآذان كما هي تستمع أيضاً أشد وأشد.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} [عبس:34] وقد أسلفنا في محاضرات سابقة لماذا يفر المرء من أخيه؟ لثلاثة أمور: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] ، ولعدم مطالبته له بحقوقه: يا رب لي حق عند هذا، وخوف الفضيحة فقد كان مستوراً أمام إخوانه في الدنيا، وفضح في الآخرة فيخشى أن يرى، هذا قول والله أعلم.
{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34-37] قالت أم المؤمنين عائشة للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: عندما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حديث: (إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً كما بدأنا أول خلق نعيده، ألا إن أول الخلائق يؤتى هو إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ألا إنه يؤتى برجال من أمتي -أو بأقوام من أمتي- فيؤخذ بهم ذات اليمين وذات الشمال إلى أن قالت: عائشة -: يا رسول الله! الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال: يا عائشة! الأمر أشد من ذلك) الله سبحانه وتعالى يقول: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:37] .
{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس:38] أسفر الصبح إذا طلع.
{ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:39] وجوه أهل الإيمان كوجوه قد أشرقت وأضاءت وابيضت كما قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ} [آل عمران:106] ابيضت من آثار الوضوء، وقبل ذلك ابيضت بإيمانها بالله سبحانه وتعالى لم يرهقها قتر ولا ذلة كما قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [يونس:26] .
فمن أراد أن يبيض وجهه ويزداد بياضاً يوم القيامة فعليه بأمور بعد الإيمان بالله والوضوء، من هذه الأمور: الإكثار من حمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتبليغها الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها) فالذي يحفظ حديث النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً متقناً ويؤديه للناس فيبلغه للناس تحل عليه بركة دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: أن حفظ سنة النبي صلى الله عليه وسلم سبب في بياض الوجوه.
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38-39] هؤلاء الذين كانوا خائفين في الدنيا، وكانوا وجلين في الدنيا من لقاء الله سبحانه، ومن القبر وظلماته، ومن هول المطلع يوم القيامة، لم يجمع الله عز وجل عليهم خوفين، بل كما قال تعالى: {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} [النور:55] بعد أن كانوا في الدنيا يؤذون، ويسخر بهم ويسخر منهم، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] ، {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين:34] فأهل الإيمان يضحكون يوم القيامة.
قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس:38-40] أي: علاها الغبار والتراب، هي أصلها سوداء يوم القيامة، ومع ذلك تعلوها الغبرة، كما قال تعالى: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم:43] ومع أنها يعلوها الذل يعلوها أيضاً الغبار.
يقول الله سبحانه: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا} [عبس:40-41] أي: تعلوها {قَتَرَةٌ} [عبس:41] أي: ذلة {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42] والعياذ بالله.
بهذا ينتهي تفسير سورة عبس، نسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما فيها، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.