ثم بدأ الله في ذكر الأدلة على البعث، وهذا هو الذي رجح أن النبأ العظيم هو البعث، فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ:6] ، أي: ألم نخلق الأرض ونمهدها كمهاد الطفل تفترشونها كما يفترش الطفل فراشه ويلتحف بلحافه؟! ألم نمهد الأرض فنجعلها ممهدة تمهيداً؟! {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ:7] الوتد هو: الشيء الذي يدق في الأرض، وتربط به الخيمة، وهو معلوم، فالجبال للأرض كالأوتاد، تثبت الأرض بها بإذن الله، قال الله: {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء:31] ، أي: لئلا تميد بكم، فالجبال تثبت الأرض كما أن الأوتاد تثبت الأشياء.
فالله يستدل على البعث بقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا} {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، والمراد بالأزواج هنا الأصناف، أي: خلقناكم أصنافاً، فمنكم الطويل ومنكم القصير، ومنكم الذكي ومنكم الغبي، ومنكم الصالح ومنكم الطالح، ومنكم الغني ومنكم الفقير، ومنكم الجميل ومنكم الدميم.
ومن العلماء من قال: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، أي: ذكراً وأنثى، كما قال تعالى: {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49] ، ومن المفسرين من فسر قوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] ، بقوله: (الشفع) : الخلق، فكل شيء زوجان من الخلق، (والوتر) هو: الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً، وهو وتر يحب الوتر) ، فقوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، لأهل العلم فيها تأويلان: التأويل الأول: أن المراد بالأزواج الأصناف.
التأويل الثاني: أن المراد بالأزواج الذكور والإناث.
ويشهد للمعنى الأول قوله تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه:131] ، وأما قوله تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف:12] فيشهد للمعنيين معاً، ففي قوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} ، قولان: الأول: (أزواجاً) أي: أصنافاً.
والثاني: (أزواجاً) أي: ذكراً وأنثى.
{وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ:9] السبات هو: السكون والراحة، أي: وجعلنا نومكم راحة وسكوناً لأبدانكم، وهي مأخوذة من السبت، وأصل معنى السبت الراحة، فيوم السبت كان عند اليهود يوم الراحة، قال الله: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163] .
الآيات.
{وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ:10] شُبه الليل باللباس؛ لأنه يغطي الأشياء ويسترها كما يستر اللباس الأشياء، فالليل يسترك كما أن الثوب الذي تلبسه يسترك، والليل المظلم يسترك، فالظلام يستتر فيه الناس.
{وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ:11] تتعايشون فيه، كما قال الله سبحانه وتعالى، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [القصص:71-73] ، أي: في الليل، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73] ، أي: في النهار.
فالأصل في الليل أنه للسكون والراحة، ومن ثم (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكره السمر بعد العشاء) وكان يدعو لأمته أن يبارك الله لها في البكور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها) وهذا شيء ملموس، فإذا صليت الفجر في جماعة، وقلت أذكار الصباح بعد أذكار الصلاة، ثم بدأت عملك، بارك الله لك في يومك، أما أن تنام إلى ما قبل الظهر، فتذهب عليك البركة التي في الصباح، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان ينام بعد العشاء في الغالب إلا للضرورة.
قال الله جل ذكره: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ:12] السبع الشداد هي السبع السماوات، ووصفت بأنها شداد لإحكامها، فهي محكمة إحكاماً شديداً كما قال سبحانه في الآيات الأُخر: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات:7] أي: السماء التي شد بعضها إلى بعض وحبكت، كما يقول القائل للذي يصلح النعال مثلاً: اُحْبُكِ الخيط، أي: شده بقوة، أو يقول لك قائل إذا رآك متشدداً مثلاً: لماذا أنت محبكها يا عم؟ فالسماء ذات الحبك أي: التي حبك بعضها إلى بعض، وشد بعضها إلى بعض، فأصبحت شديدة.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} [النبأ:13] ، السراج الوهاج هو المضيء، والمراد بالسراج الوهاج: الشمس.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} [النبأ:14] المعصرات هي: السحب التي امتلأت بالماء وأوشك أن ينزل منها المطر، كما يقولون في المرأة التي أشرفت على الحيض: أعصرت أو قدم إعصارها، يعني: اقترب وقت نزول الحيض منها، فالمعصرات: السحب التي امتلأت ماءً وأوشك أن ينزل منها الماء.
ومن أهل العلم من قال: إن المعصرات هي الرياح، لكن الجمهور على أن المعصرات هي السحب الممتلئة بالماء التي أوشكت أن ينزل منها الماء.
{وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ:14] ، والثجاج هو المتتابع المتدفق، أي: ماء بعد ماء متتالٍ متتابع ينزل بشدة وبغزارة، كما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أفضل الحج: العج، والثج) وما هو العج، وما هو الثج؟ العج: الإكثار من التلبية، والثج: الإكثار من الذبح، بأن تذبح بقرة، وتذبح جملاً، وتذبح شاة، تكثر الذبح فهذا أفضل الحج، ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام (نحر في حجته مائة بدنة من الإبل) ، فمعنى الثج هو التتابع.
وفي حديث المرأة التي جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام -وفي إسناده عبد الله بن محمد بن عقيل وهو متكلم فيه- تسأله عن دم الاستحاضة، فقال لها: (أنعت لكِ الكرسف) -يعني: أصف لكِ القطن- أي: سدي الفرج بالقطن ليقف الدم، قالت: إنما أثج ثجّاً يا رسول الله! أي: القطن لا يستطيع أن يمسك هذا الدم، فإنه ينزل بغزارة تدفع القطن، وهذا معنى الثج.
قال الله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} [النبأ:15] وهذا من أدلة البعث، وسبق من أدلة البعث: خلق السماوات والأرض، وجعل النوم سباتاً.
وقوله: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} ، هو: ما يقتات منه الناس كالبر مثلاً، وهي الغلة التي نسميها في بلادنا القمح، والذرة والرز وغير ذلك، والنبات هو ما يأكله الحيوان، وقد يأكل الناس بعضه أيضاً.
{وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ:16] ، الجنات هي: الحدائق والبساتين التي كثرت فيها الأشجار وتشابكت حتى غطت من بداخلها لكثرة الأشجار فيها، فهذا التفسير اللغوي للجنة، وهو مأخوذ من تغطية الأشجار، وأي شيء يغطي يسمى جنة، قال تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام:76] ، وجُنَّ فلان، أي: غطي على عقله.
فالجنة يطلق عليها جنة لكثرة أشجارها حتى تغطي الناس الذين فيها من كثرة ما فيها من خيرات، {أَلْفَافًا} ، أي: بساتين وحدائق أشجارها ملتفة.