{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات:45-46] أي: في حياتكم الدنيا فهي بالنسبة للآخرة مدتها قليلة بل كما جاء في الأثر: (ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بما يرجع له) وقال تعالى: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر:8] .
{كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات:46] أي: في هذه الحياة الدنيا {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات:46-47] .
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] العلماء لهم قولان في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} [المرسلات:48] .
القول الأول: إن معناها إذا قيل لهم صلوا لا يصلون أصلاً، فهم تاركون للصلاة، وعلى هذا فترك الصلاة جريمة لقوله قبلها: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات:46] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] فهذا نص يثبت أن تارك الصلاة مجرم من المجرمين، وإن كان له وظيفة عالية، وإن كان أستاذاً في جامعة، وإن كان وزيراً وإن كان ملكاً وإن كان رئيساً، فهو في نظر الشرع مجرم.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:38-42] فصدروها بقولهم: {لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43] فتارك الصلاة مجرم بنص كتاب الله في موطنين: الموطن الأول: في سورة المدثر.
والموطن الثاني: {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات:34] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] وهو وإن كان حسن الأخلاق مع الناس، لكنه في نظر الشرع مجرم من المجرمين.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] القول الأول في تفسيرها: إذا قيل لهم صلوا لا يصلون.
القول الثاني: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] أي: إذا قيل اخضعوا واسمعوا وأطيعوا الله، فإنهم لا يخضعون ولا يسمعون ولا يطيعون لله.
والتفسير الأول أقرب إلى الظاهر، وكان البعض يأبى أن يركع ويأبى أن يسجد، وقد تقدم أن علياً رضي الله عنه كان يضحك كثيراً من أبيه، ومن بعض تصرفاته عندما كان يقول له: يا أبي أسلم واسجد لله، يقول: يا بني لا تعلوني استي أبداً، فيضحك علي من هذا الجهل وهذا الغباء الذي يصدر من أبيه، بل من هذا الكبر الغريب.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} [المرسلات:48-50] أي: بعد هذا القرآن {يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] .
فقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات:50] ينبغي أن يلتفت إليه وألا يصار إلى التذكير إلا بكتاب الله وسنة رسول الله، وإن ذكرنا بغير الكتاب والسنة من القصص والحكايات التي تؤثر تأثيرات وقتية، فليكن على سبيل الشيء العارض ولا تأخذ أكبر من حجمها مثل أصل التذكير بكتاب الله وبسنة رسول الله، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق:45] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185] .
فلا بد من تغليب التذكير بكتاب الله والتذكير بسنة رسول الله على التذكير بالخزعبلات التي سرعان ما تزول من ذهنك، ولا يبقى معك في وقت الشدائد آية من كتاب الله وتفسيرها، أو حديث لرسول الله ومعناه، ففي وقت الشدائد هل أحتج بقصة حصلت؟ لا.
بل أتعلق في وقت الشدائد بقال الله قال رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وقد سمعتم من قبل القصة التي تعد مسلية في مجال التذكير بالدليل، والقصة التي حدثت للقرطبي والقرافي تقدمت على ما سمعتم مراراً، فـ القرطبي رحمه الله كان في عصره من علماء النقل -الكتاب والسنة- والقراسي كان في عصره من علماء العقل -الرأي- يعني هذا يبني على النقل وهذا يبني على العقل، فاجتمعا معاً وذهبا إلى مدينة في مصر وهي مدينة الفيوم واستأجرا بيتاً من رجل، وكان بين صاحب البيت وبين أطفال ذلك الشارع خلاف، فكلما لعبوا أمام البيت يطردهم، فسمعوا أن البيت أُجر فقالوا: لنفسدن على الرجل الإجارة.
وذهب الأطفال إلى القرطبي والقرافي فقالوا لهما: إنكما استأجرتما البيت وهو مسكون -فيه جن وعفاريت- فلم يلتفت القرطبي والقرافي إلى هذه المقالة وقالا: نعتصم بالأذكار.
وذهبا إلى صلاة العشاء ورجعا وتهيآ للنوم وأطفآ السراج عملاً بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن هذه النار عدو لكم فإذا نمتم فأطفئوها عنكم) فإذا بصوت في البيت، فتذكر الشيخان مقالة الأطفال أن هناك جناً في البيت، فخاف القرافي خوفاً شديداً، أما القرطبي فماذا معه، معه أحاديث من رسول الله عليه الصلاة والسلام تنفع عند الشدائد والكرب، فبدأ يعتصم بالله ثم بالأحاديث التي وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكثر من الذكر (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ، (باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم) ، (لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش الكريم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش العظيم) (حسبنا الله ونعم الوكيل) والقرافي لأنه يعتمد في علمه على العقل ولا يحفظ كثيراً من كتاب الله ولا من سنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ماذا يصنع العقل؟ حينئذٍ يفشل، فازداد الصوت ارتفاعاً فازداد القرطبي ذكراً وازداد القرافي خوفاً وهلعاً.
ظهر رأس كبش عند باب الغرفة فسقط القرافي على الأرض من شدة الخوف، ووثب عليه القرطبي ركبه وأمسك بقرونه قائلاً: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس:59] فدخل صاحب البيت وقال: يا أيها الشيخ! كبش أكرمتكما به تفعل بها هكذا.
شاهِدُنا من القصة أنه عند الشدائد تزول الحكايات ويبقى الاعتصام بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية:6] .
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله.