قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي: سجينة ومحبوسة مرتهنة بعملها، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الغلام مرتهن بعقيقته) ، وكما قال سبحانه في الآية الأخرى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} [الأنعام:70] ، فقوله تعالى: (أن تبسل نفس بما كسبت) تبسل أي: تحبس في النار.
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:38-39] لكن أصحاب اليمن {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر:40-41] .
لكن هل قوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:39] يفيد أن أصحاب اليمين لا يرتهنون بأعمالهم؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: من العلماء من يحمل محامل ويؤول تأويلات ويقدر تقديرات فيقول: (إلا أصحاب اليمين) فإنا قد غفرنا لهم ما ارتكبوه من سيئات، وعفونا لهم ما اقترفوه من آثام، فهم إذاً في جنات يتساءلون بعد أن كفرنا عنهم السيئات.
القول الثاني: هي محمولة على أهل الشرك، أما أهل الإيمان فلم يقترفوا شركاً، فما ارتهنوا إذاً بشرك اقترفوه، والله أعلم.
{إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر:39] وهم أهل الجنة الذين أوتوا كتبهم باليمين {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة:19] .
{فِي جَنَّاتٍ} [المدثر:40] أي: آل بهم المقام إلى جنات، فمقامهم ومستقرهم في جنات، {يَتَسَاءَلُونَ} [المدثر:40] ، أي: فيما بينهم، أو يسألون أهل الإجرام: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] أي: ما هو السبب الذي أوردكم هذا المورد وأنزلكم سقر؟ {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:43-46] فسبب دخولهم سقر أربعة أشياء ذكروها: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:43-47] أي: حتى متنا على هذه الحال، فاليقين هو: الموت لقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ، اليقين هنا هو: الموت، وإن كان له معان أخر، ومن هذا الباب قول الرسول صلى الله عليه وسلم لامرأة قالت في شأن عثمان بن مظعون قولاً حسناً، فقال لها الرسول: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه) ، لما قالت: رحمت الله عليك! ظني أن الله سبحانه وتعالى قد رحمك، أو كما قالت، فقال لها الرسول: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه) فقولهم: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47] يعني: حتى متنا على هذه الحال من ترك الصلاة ومنع المساكين، ومن الخوض مع الخائضين، ومن التكذيب بيوم الدين.