{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القلم:50] ، أي: اختاره ربه سبحانه وتعالى فجعله من الصالحين، ولذلك صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خيرٌ من يونس بن متى) ، وهل الضمير في قوله: (أنا خيرٌ من يونس) يرجع إلى العبد؟ أي: لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا -نفسي- خيرٌ من يونس؛ لأن يونس ما صبر وأنا قد صبرت، أم أن الضمير يرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ سيكون المعنى: لا ينبغي لعبد أن يقول: إن النبي محمداً صلى الله عليه وسلم خيرٌ من يونس بن متى؟ فلكل قولٍ وجه: فالقول الأول: لا ينبغي لعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من نبي الله يونس؛ لأن الأنبياء هم أفضل الخلق، وأعقل الخلق وأكمل الخلق عليهم الصلاة والسلام، وقد يتأيد هذا المعنى بالوارد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) ، فقوله: (أنا سيد ولد آدم) يجعل المفسر يقول: لا ينبغي لعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من يونس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بلا شك خيرٌ من يونس بن متى، إلا أن بعض العلماء يقول: إن هذا من باب النهي عن التخيير بين الأنبياء على السبيل التي تجلب الشحناء؛ مثال ذلك: لما قال أحد الصحابة: والذي اصطفى محمداً على العالمين، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، فقام المسلم إلى اليهودي فصفعه على وجهه، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكى إليه المسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: (لا تخيروني من بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذاً بقوائم العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم أُخذ بصعقة الطور؟!) ، فالشاهد أن لقائل أن يقول: إن قوله (أنا) يرجع إلى العبد، فلا ينبغي للعبد أن يقول عن نفسه: أنا خيرٌ من يونس، وإذا نزلناها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي لعبد أن يقول: إن النبي محمد عليه الصلاة والسلام خيرٌ من يونس، فهذا يحمل على أنه عليه الصلاة والسلام قاله على سبيل التواضع، أو قاله قبل أن يعلم: أنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم، والله تعالى أعلم.
وإلا فأصل تفضيل بعض الأنبياء على بعض وارد في كتاب الله: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة:253] ، وقال ربنا سبحانه: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] فمن الرسل من هو من أولي العزم، ومنهم من ليس من أولي العزم، والله أعلم، {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115] .
وفي قصة يونس صلى الله عليه وسلم فوائد منها -وقد تكرر ذكرها مراراً-: أن السيئة -أو حتى الكبيرة- إذا ارتكبها العبد لا تطيش بكل محاسن عمله، بل توضع أيضاً محاسنه في الاعتبار، وقد قدمنا أن موسى صلى الله عليه وسلم قتل نفساً لم يؤمر بقتلها، وألقى الألواح وكسرها، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، فمع هذا كله، لم يخرجه ذلك عن حيز الوجاهة، فإن الله وصفه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69] عليه الصلاة والسلام، وقال الله في شأن أهل الإيمان: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر:35] ، وفيه دليل على أنهم عملوا أعمالاً سيئة، فالشخص لا يؤاخذ بالذنب، فيغطى بهذا الذنب على كل المحاسن: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45] .
قال الله سبحانه: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} .
والناظر إلى سير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجد أن كثيراً منهم قد اجتباه ربه بعد معصيته، أو أن بعض الأنبياء اجتباه ربه بعد معصية، فكيف هذا؟ الإجابة: أن المعاصي أحياناً تكسر صاحبها وترده رداً جميلاً إلى الله، فيجتهد في الاستغفار ويجتهد في التوبة، ويجتهد في الإنابة، فالمعصية تحدث له نوعاً من الرجوع إلى الله، ومن حسن العبادة والطاعة، ورب طاعة يأتي بها العبد، وتكون سبباً في إدخاله النار -والعياذ بالله! - إذا أورثته عجباً وفخراً، والله أعلم.
آدم صلى الله عليه وسلم أخرج من الجنة كما لا يخفى عليكم، وقال تعالى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] ، بعد المعصية قال تعالى في شأن آدم: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:122] ، وها هو يونس: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، وموسى صلى الله عليه وسلم قتل النفس وشاء الله سبحانه وتعالى له أن يكون رسولاً بعدها بسنوات، (فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ) أي: اختاره واصطفاه، (فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) .