تفسير قوله تعالى: (وإن لك لأجراً غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم)

{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:3] فالآية فيها دفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها تصديق لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم:2-3] أي: غير مقطوع، يعني: أجرك ثابت، ومتواصل لا ينقطع، {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ، عليه الصلاة والسلام، إذاً: القسم على ثلاثة أشياء: الشيء الأول: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2] نفي الجنون.

والشيء الثاني: أن للنبي أجراً لا ينقطع.

والشيء الثالث: أنه عليه الصلاة والسلام على خلق عظيم، صلى الله عليه وسلم.

وما معنى {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ؟ من العلماء من فسر الخلق هنا: بالدين، قال: وإنك على دين عظيم، إذ الإسلام خير الأديان ومنهم من فسرها بعموم الأخلاق، وعلى كلٍ فما زالت الآية مجملة، فما هو هذا الخلق العظيم، إذا قيل: إن المراد به عموم الأخلاق؟ تفسيرها في آيات أخر، كما قال الله تعالى في شأنه عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] فخلقه مع أصحابه لين، {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فهذا من خلقه عليه الصلاة والسلام، فهذه الآية {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] مجملة فسرتها آيات، وفسرتها أحاديث، أوضحت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أوامره كلها تحمل أخلاقاً حميدة، لما سأل هرقل أبا سفيان، بم يأمركم محمد: قال: يأمرنا بالعفاف، والصلة والصلاة والزكاة وهجر الأوثان، إلى غير ذلك.

ومن خلقه أنه حريص على أمته وليس حسوداً لها، بل هو حريص على المؤمنين {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] هذه أخلاقه على وجه الإجمال، وقد سئلت أم المؤمنين عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت للسائل: (ألست تقرأ القرآن؟ قال: نعم، يا أماه! قالت: كان خلقه القرآن، ثم تلت: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ) وأبو ذر لما أرسل أخاه يتفقد أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويستخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء أخوه وقال: إني وجدت رجلاً يأمر بمكارم الأخلاق، فكانت أخلاقه حسنة في كل شيء، إذ خلقه القرآن في العبادات، وفي المعاملات، وفي سائر شئونه عليه الصلاة والسلام.

في العبادات إذا أنفق لا يتبع الإنفاق بالمن والأذى، {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263] .

إذا أعطى يعطي لوجه الله، {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} [الإنسان:9] .

إذا علم يعلم لله إذا صبر يصبر لله إذا تصدق كان رءوفاً بالمتصدق عليه، هذا في أبواب الإنفاق.

وفي أبواب الصلاة إذا قام يصلي قام خاشعاً لله حتى تورمت قدماه صلى الله عليه وسلم.

في أبوب الصيام يقول: (من لم يدع قول الزور، والعمل به والجهل؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) في أبوب الحج، {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] إذا حج لا يُطرد الناس عنه طرداً ويضربون ضرباً كما يحدث الآن، إنما كما قال الصحابي الكريم: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة لا ضرب ولا طرد، ولا إليك إليك) صلى الله عليه وسلم.

في الاجتماع يأتي كذلك يعلم المؤمنين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور:27] .

ينزل الناس منازلهم فيعرف للكبير حقه، جاء رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حويصة ومحيصة، فذهب أحدهما يتكلم فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كبر، كبر) وقال عليه الصلاة والسلام: (أراني أتسوك، فأتاني رجلان فدفعت السواك للأصغر منهما، فقيل لي: كبر كبر) قال عليه الصلاة والسلام في حالة التساوي في حفظ القرآن والسنة: (وليؤمكم أكبركم) هكذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم، فأعطى للكبير حقه، وأنزل الناس منازلهم، وعرف لصاحب المنصب منصبه، ولصاحب الجاه جاهه، وعرف للفقير حاله؛ فرفق به ورحمه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح: (من دخل المسجد فهو آمن) قال ذلك للمشركين الخائفين من القتل لما فتح مكة: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن) ثم الشاهد (ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن) فأنزل أبا سفيان منزلته باعتباره شيخاً لقريش، وأنزل أبا بكر منزلته، لما جاء أبو قحافة مع أبي بكر الصديق ورأسه مشتعلة بياضاً كالثغامة -أي: القطن- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو جلس في بيته يا - أبا بكر - لأتيناه؛ تكرمة لـ أبي بكر) ولما ذهب سعد بن معاذ رضي الله عنه يحكم في بني قريظة فرآه الرسول وهو مقبل -وكان سيد الأوس، والأوس من الأنصار- فقال عليه الصلاة والسلام للأنصار: (قوموا إلى سيدكم) ولما استأذن عليه عثمان والرسول حاسر عن بعض فخذه عليه الصلاة والسلام، فلما سمعه يستأذن غطى فخذيه، في رواية أنه قال: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة) وفي الرواية الأخرى أنه قال: (إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إذا رآني على هذه الحال ألا يبلغ إليّ في حاجته) يعني: يستحيي أن يتكلم معي ويشكو إليّ حاجته، ويسألني مسألته إذا رآني على هذه الحال.

ومن باب رده صلى الله عليه وسلم للجميل وحفظه للمعروف -إذ ليس بجاحد للمعروف ولا منكر للجميل- كان عليه الصلاة والسلام إبَّان مرجعه إلى الطائف وقد طرد وأخرج من مكة إلى الطائف، فلما رجع إلى مكة نزل في جوار المطعم بن عدي، والمطعم كان كافراً، فلما نزل الرسول في جواره، حمل المطعم بن عدي سلاحه هو وقبيلته، وقال: يا معشر قريش! إني قد أجرت محمداً فمن مسه بسوء كانت الفيصل بيني وبينه، فحفظ الله نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم لما مات المطعم، وجاءت غزوة بدرٍ الكبرى، وأسر من المشركين سبعون؛ جاء النبي صلى الله عليه وسلم ونظر إليهم وقال: (لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء لتركتهم له) فكان يحفظ الجميل صلى الله عليه وسلم، ولا يضيع عنده المعروف عليه الصلاة والسلام.

وكان حسن العهد بمن مات، فيخلفه في ذراريه وفي أقاربه بخير، قال عليه الصلاة والسلام: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد موته) فإذا كان أبوك يزور شخصاً، أو يزور امرأة من أقاربك، أو من الفقيرات، فلا تقطع الود، ولا تقطع الصلة بموت الأب، ولا تُشعر من كان أبوك يحسن إليهم بالانقطاع، فزرهم وصلهم كما كان أبوك يفعل؛ قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد موته) هكذا قال رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام.

وأيضاً كانت هالة بنت خويلد كلما جاءت واستأذنت على رسول الله -وهي أخت خديجة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم- عرف من نبرات صوتها نبرات صوت أختها خديجة، تلكم المرأة الصالحة التي كانت تعينه على نوائب الحق، وتؤازره بحنانها وعطفها وما رزقها الله من مال، فلما ماتت كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سمع صوت هالة، لما فيه من مشابهة لصوت خديجة ارتاع لذلك، وقال: (اللهم! هالة) حتى غارت عائشة رضي الله عنها لكثرة ما كان النبي يكثر من ذكر خديجة رضي الله عنها، فكان حافظاً للعهد عليه الصلاة والسلام، ولا ينكر المعروف أبداً.

كان قوي الملاحظة عليه الصلاة والسلام فليس كل الناس يستطيعون التعبير عما في أنفسهم باللسان، بل منهم من يظهر ما في قلبه على وجه، ومنهم من يعبر عما في نفسه إشارة، ومنهم من فاض الذي في قلبه حتى خرج على لسانه فيلزمك أن تكون كرسولك محمد صلى الله عليه وسلم قوي الملاحظة فهّامة تفهم من حولك، وتفهم مدلولات الألفاظ.

من الناس من امتلأ قلبه لك حباً، فإذا رآك لا تسمع منه إلا كل خير، وكل كلم طيب معبرٍ عما في النفس، ولا ترى منه إلا البشاشات، ولا ترى منه إلا الترحيبات، ومن الناس من ملئ قلبه حنقاً، وغيظاً عليك، فكما قال الله في أضرابه من أهل النفاق: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118] إن كنتم تفهمون، وقال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد:30] فكان الرسول قوي الملاحظة كما كان أصحابه، وكما علم أصحابه رضي الله عنهم، يقول لأم المؤمنين عائشة: (

طور بواسطة نورين ميديا © 2015