وفي الآية حث على العمل والاكتساب لقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَاوَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} وهذا أمر، لكن هل يقتضي الوجوب؟ في الحقيقة إن الأمر في هذا الموطن يقتضي الإباحة، فلا يجب عليك أن تمشي في المناكب -إن كان عندك سعة- فالأمر أمر إباحة، كما قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [الجمعة:10] هل يجب عليك أن تنتشر في الأرض إذا قضيت الصلاة، أو يجوز لك أن تمكث في المسجد لحديث: (الملائكة تصلي على أحدكم مادام في مصلاه الذي صلى فيه تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث) ؟ فقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} فيه إباحة الانتشار، وليس وجوب الانتشار، كذلك قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] هل يجب أن يأتي الرجل امرأته إذا تطهرت أو هو أمر إباحة؟ هو أمر إباحة كما كان الأمر من قبل أن تحيض، والله سبحانه أعلم.
لكن على كلٍ فقوله سبحانه: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} حث على البحث عن الأرزاق في الأرض، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحدٌ طعاماً قط خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده) أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على نبي الله داود عليه الصلاة والسلام؛ لكونه كان يأكل من عمل يده، والعمل الذي كان يعمله داود عليه الصلاة والسلام هو كما قال تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ:11] يعني: اعمل الدروع، وهي: صنعة الحدادين، هي تقي من سهام العدو، وتقي من السيوف والضربات، {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي: دروعاً سابغات، تسبغ أي: تغطي، ومنه قولهم: هذا الثوب سابغ، يعني: يغطي ما تحته، ومنه قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] أي: غطاكم بنعمه الظاهرة والباطنة.
فنبي الله داود كان يأكل من عمل يده، وكان يعمل سابغات، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم (أن زكريا كان نجاراً) ونوح عليه الصلاة والسلام امتهن نفس المهنة فصنع الفلك كما قال الله له: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] وهذا يقتضي أن يكون ملماً بأعمال النجارة، وأيضاً قال عليه الصلاة والسلام: (ما بعث الله نبياً إلا وقد رعى الغنم، قالوا: وأنت يا رسول الله؟! قال: نعم قد رعيتها على قراريط لأهل مكة) أي: مقابل قراريط -أي: دراهم- آخذها من أهل مكة، ونبي الله موسى صلى الله عليه وسلم جعل من نفسه أجيراً لعفة فرجه ثماني سنوات: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] ، وقد أسلفنا القول بأن سليمان كان يقف يراقب الجن وهي تحفر وتصنع التماثيل، والجفان، والقدور الراسيات: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} [سبأ:14] .
فهذا سلوك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يأكلون من عمل أيديهم، وقد قال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [المزمل:20] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اليد العليا خير من اليد السفلى) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (أفضل الكسب: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور) وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره يرعى الغنم، ثم عمل تاجراً، ثم جعل رزقه تحت ظل رمحه، فكل الأنبياء كانوا يعملون ويجتهدون عليهم الصلاة والسلام، وكذلك السلف الصالح، فأمير المؤمنين عمر يقول: (ألهاني الصفق بالأسواق) يعني بالتجارة، والله يقول أيضاً: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} [الفرقان:20] فكانوا متعففين لا يمدون أيديهم للناس، بل يذهبون إلى العمل، وهكذا كان الصحابة، فهذا عبد الرحمن بن عوف قدم إلى المدينة، وجاء سعد بن الربيع يعرض عليه أن يتنازل له عن إحدى زوجتيه، وأن يشاطره ماله، قال: مالي أقسمه بيني وبينك نصفين، وانظر أي زوجتي شئت أطلقها فتزوجها!! قال: بارك الله لك في أهلك وفي مالك، ولكن دلوني على السوق؛ وهذا ينبغي أن يكون شعاراً محفوظاً: (دلوني على السوق) فدلوه على السوق، فما هي إلا أيام معدودة حتى أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، فقال: (ميهم يا عبد الرحمن؟! قال: تزوجت يا رسول الله! قال: كم سقت إليها؟ قال: وزن نواة من ذهب) ، وكان هذا مهراً كبيراً، حتى إنه جاء في بعض الروايات أن الرسول قال: (كأنما تغرفون من بطحان) أي: لكثرة المهور التي تعطونها للنساء، الشاهد: أنه تعفف عما في يد أخيه -مع أن أخاه عرض عليه المال- وأقبل على العمل.
وهذا أبو مسعود البدري يقول: لما نزلت آية الصدقة كنا نذهب إلى الأسواق فنحامل على ظهورنا، ونأتي بأموال كي نتصدق بها، وفي آخر حياته رضي الله عنه أصبح من كبار الأثرياء، حتى إن عماراً وأبا موسى ذهبا إليه يوماً، ودارت مناقشة بين الجميع فقال أبو موسى لـ عمار: يا عمار! والله ما نقمت عليك شيئاً منذ أسلمت إلا تسرعك في هذا الأمر، أي: في الاشتراك في القتال مع علي، والاشتراك في القتال بصفة عامة، فقال عمار لهما: والله يا أبا موسى ويا أبا مسعود! ما أنقم عليكما شيئاً منذ أسلمتما إلا تخلفكما عن قتال الفئة الباغية، ثم إن أبا مسعود أمر لكل منهما بحلة، والحلة كانت باهضة غالية الثمن في ذلك الزمن، وقال: انطلقا بها إلى الجمعة.
وأم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله تعالى عنها لم تكن في حاجة إلى المال، فرسول الله يكفيها بإذن الله، ولكنها كانت تعمل فتأتي بجلد وتدبغه في بيتها، ثم تبيعه وتأخذ ثمن الجلود تتصدق بها، ولذلك قال الرسول في شأنها: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكن يداً) أي: بالصدقة.
الشاهد: أن إخواننا الذين يظنون أن ديننا مبني على مد اليد وعلى التكاسل وعلى البلادة ظنهم خاطئ، فاليد العليا خير من اليد السفلى، واليد العليا يد المعطي واليد السفلى يد الآخذ، فالعمل ليس بعيب أبداً، امتهن أي مهنة، حتى لو يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب، خير له من أن يأتي هذا فيسأله، ويأتي هذا فيسأله، فكن عفيفاً يا عبد الله! فهذا كلام الله وسنة رسول الله فيهما الحث على طلب الرزق، وقد سمعت بعض سير أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد استدل بعض العلماء بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) فقال هذا المستدل: إن النبي قال: (لرزقكم كما يرزق الطير) نعم، الطير يرزقها الله، لكن ليس وهي في أوكارها، والله قادر أن يرزقها إذا شاء على أي وضع، لكن الطير لا تجلس بليدة كسولة وتقول: إن رزقي يأتيني في وكري، إنما تغدو أي: تخرج تبحث عن الرزق، وترجع أي: تروح، فاستدل به على أن الأخذ بالأسباب مشروع مع التوكل.
أما الحكايات والقصص والخرافات التي تحكيها بعض الجماعات وتتبناها، فلا أصل لها.
فاعملوا بالأدلة التي سمعتموها من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعال سلف الأمة رحمهم الله.