تفسير قوله تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)

قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن:16] : هذه إحدى الآيات في رفع الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم التي اختصها الله سبحانه وتعالى برفع الحرج عنها، وبعث الله نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لوضع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم من قبلنا، كما قال تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف:157] ، فرسولنا بعث، ومن بعثته وضع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم من قبلنا، فالحرج موضوع عن أمة محمد.

ومن العلماء من قال: إن هذه الآية ناسخة لقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] .

وبعضهم رام الجمع، ولذلك كان رسولنا صلى الله عليه وسلم يعلمنا فيما يعلمنا أن نرفع عن أنفسنا العنت والحرج، كما في دعاء سيد الاستغفار: (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) ، فقد لا تستطيع أن تقوم على عهد الله وبعهد الله، ولا تستطيع أن تقوم بوعد الله كذلك، فتلقين رسولنا صلى الله عليه وسلم لنا: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) ، حتى إذا صدر منا خلل يجبر بقولنا: (وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت) .

وقد بايع بعض الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، قال: (فلقنني رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيما استطعت) ، أي: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطعت، وكذا قال ابن عمر عند بيعته لبعض خلفاء بني أمية: (أبايعك على كتاب الله وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما استطعت) ؛ فهذه الآية من الآيات التي ترفع الحرج عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

والآيات في هذا الباب متعددة وكثيرة، وفي الحقيقة أنها عمومات يعمل بها عند أي إشكال أو خارج عن حد الاستطاعة، فكل أمر أمرت به وخرج عن حد طاقتك واستطاعتك فانتقل إلى المرحلة التي بعده، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب) ، وفي بعض الروايات: (فأومئ إيماءً) ، توضأ بالماء، فإن لم تجد الماء فتيمم صعيداً طيباً، فإن لم تجد الصعيد الطيب فصل صلاة فاقد الطهورين بلا ماء ولا صعيد.

إذا سافرت فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم أن صلاة النافلة على الراحلة حيثما توجهت بك، لكن إذا جاءت الفريضة فانزل، فإذا لم تستطع النزول فصل الفريضة على ما تيسر لك، وإذا كنت في قطار ولم تجد ماء تتوضأ به، فاضرب يديك على الكرسي وتيمم بالتراب الذي عليه، وإذا لم تجد تراباً ولم تجد ما تتيمم به فصل على حالك: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] والآيات في هذا الباب كثيرة متعددة.

وكذلك الأحاديث، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت بالحنيفية السمحة) ، وليس ذلك في أمر العبادات فحسب بل في سائر التكاليف، كذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه) ، قال فريق من أهل العلم: إن هذا في الأوامر ولا يتطرق إلى النواهي؛ لأن النواهي الأصل فيها الترك، لكن الأوامر تحمل التكاليف، فافعل منها ما استطعت.

وفي الحقيقة هناك مسائل لا يفتى فيها بصفة خاصة بناءً على دليل خاص فيها، ولكن يعمل فيها بعمومات، فمثلاً: حد الإكراه وحد الاستطاعة يختلف من شخص إلى شخص آخر، فلذلك تجد فتاوى وأقوال العلماء تتنوع وتتعدد في كثير من المسائل، فقد تذهب إلى شخص من أهل العلم وتستفتيه في مسألة، وتذكر له من حالك وملابساتك ما يحمله على إعطائك فتيا تتناسب مع حالك، وتذهب إلى عالم آخر وتقصر في عرض المشكلة فيعطيك فتيا تتناسب مع حالك الذي قصرت في بيانه، فتذهب وتزعم أن الفتيا قد اختلفت من عالم إلى آخر، وأنت الذي قصرت في الإبراز، والله سبحانه وتعالى أعلم.

ولذلك تجد فتاوى الأئمة كـ الشافعي وأحمد رحمهما الله تتنوع وتتعدد والسؤال الموجه واحد، لكن أحد الأشخاص يكون قد استرسل في بيان حاله والثاني قصر في بيان حاله، وهي مسائل دقيقة لا يعقلها إلا العالمون، والله أعلم.

قال تعالى: {وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن:16] ، وهذه دعوة كان ابن عوف يدعو بها في طوافه، طاف عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حول الكعبة، فكان يقول في دعائه: (رب قني شح نفسي، رب قني شح نفسي، فقال له قائل: يا عبد الرحمن! لِمَ تكثر من هذه الدعوة؟ فقال: إنك إن وقيت شح نفسك فقد أفلحت كل الفلاح) .

قال فريق من المفسرين: إن الشح هو البخل، وقال آخرون: إن الشح هو أشد البخل؛ إذ هو البخل بما هو في يدك وبما في يد غيرك، فقد تبخل بمالك فيقول لك شخص: خذ هذا المال فأعطه لفلان، فأنت مكلف بإعطاء المال وليس هو مالك، فتبخل أيضاً بإعطاء المال للآخرين مع أنه ليس بمالك، وقد يأتيك شخص ويقول لك: أعط هذه الصدقة للفقراء، فتضن بها على الفقراء، صحيح أنك لا تأخذها لنفسك ولكن تضن بها، فتقول: كيف أعطي هؤلاء؟ وتماطل في العطاء.

فمن العلماء من قال: إن الشح هو البخل، وقال آخرون: الشح هو البخل مع الحرص، وقال آخرون: هو البخل بما في يدك وما في يد غيرك، والله أعلم.

كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم مشيراً إلى هذا المعنى في حديث: (الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به له النصف) ، أي: الخازن الأمين في بيوت أقوام أثرياء، يضعونه على مخزن البيت خازناً فيقال له: أعط فلاناً وأعط فلاناً، فمن هؤلاء الخزنة خازن يتضايق ويتبرم إذا قال له صاحب المال: أعط فلاناً وفلاناً، مع أنه لا يعطي من مال نفسه، ومنهم خازن ينشرح صدره، إذا قال له سيده: أعط فلاناً وفلاناً، فهذا تفسير ثالث للشح.

ومن العلماء من وسع دائرة الشح فقال: إن الشح لا يقتصر على المال بل يمتد إلى غيره من سائر الحقوق والمتعلقات، كما قال الله في شأن الزوجين المتخاصمين على شيء: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، وهذا ليس في المال، بل في امرأة ورجل، امرأة كانت تحت رجل فتزوج عليها وآثر الزوجة الثانية عليها ولا حاجة له في الزوجة الأولى، فأراد أن يطلقها فقالت: لا تطلقني، أنت في حل من شأني لا تقسم لي أياماً، فهو يقول في نفسه: لماذا أمسكها ولا حاجة لي فيها؟ لماذا أنفق عليها ولا حاجة لي فيها؟ وهي الأخرى تقول: لماذا لا يعدل بيني وبين الزوجة الجديدة وأنا زوجته؟ فتشح بنصيبها منه، وهو يشح بالمال الذي ينفقه عليها، فيقول الله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ} [النساء:128] ، فمن العلماء من وسع تعريف الشح، فيقول: هو أعم من الشح بالمال.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015