قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} في هذا أيضاً تهييج للمؤمنين ومخاطبتهم بصفة يحبونها.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] من العلماء من قال: هنا مقدر محذوف، والمعنى: كونوا أنصار دين الله، أي: انصروا دين الله، وانصروا كتاب ربكم وسنة نبيكم، وملة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّين} [الصف:14] ، من العلماء من قال: إن الآمر بالكون هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فقدروا حينئذ مقدراً محذوفاً فقالوا: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا نبيكم إذ قال لكم: كونوا أنصار الله كما أطاع الحواريون عيسى بن مريم لما قال لهم: كونوا أنصار الله.
والمقدرات تأتي في كتاب الله في مواطن وتستاغ، وتأتي في مواطن أخر وتكون مرجوحة، وبحسب السياق الذي وردت فيه يحكم عليها بما تستحق.
{كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف:14] أي: من ينصرني في بلاغي لدين الله؛ فعلى هذا يجوز للنبي أو للرجل الصالح أن يطلب مساعدة قومه له كي يبلغ الدين، يجوز للنبي عليه الصلاة والسلام، ويجوز للشخص الصالح أن يطلب المعاونة والمؤازرة من قومه وأتباعه وأحبابه لتبليغ هذا الدين، وفي هذا الباب يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (ألا هل من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي عز وجل؟ ألا هل من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي عز وجل؟) فطلب مثل هذا لا يكره ولا يخدش في توكل الشخص على الله، بل هو من باب الأخذ بالأسباب.
قال عيسى للحواريين: من أنصاري إلى الله؟ والحواريون المراد بهم: الأنصار، وهذا الرأي الراجح في تفسير الحواري، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: (لكل نبي حواري، وحواري الزبير بن العوام) ، فالحواري هو الناصر، والحواريون هم الأنصار.
وثم أقوال أخرى في سبب تسميتهم بالحواريين: منها: أنهم سموا بالحواريين لبياض ثيابهم، وقال آخرون: سموا بالحواريين لبياض عمائمهم، وهذه الأقوال كلها وردت بها آثار عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين، لكن لا يثبت فيها خبر عن رسول الله عليه الصلاة والسلام.
{كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي: يختبر ما عندهم، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف:14] من أهل العلم من المفسرين من أورد هنا أثر ابن عباس الذي روي عنه بإسناد صحيح عند ابن أبي شيبة وغيره: (أن عيسى عليه الصلاة والسلام خرج على أصحابه الحواريين ذات يوم فقال لهم: من يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ يعني: انتدبهم، فقال شاب: أنا يا رسول الله! فسكت عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم قال: من يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ فسكت القوم، وقال نفس الشاب: أنا يا رسول الله! فسكت، ثم قال: من يلقى عليه شبهي ويكون معي في الجنة؟ قال: أنا يا رسول الله! فأغفى القوم كلهم إغفاءة -أي: أخذتهم سنة من النوم- وألقي شبه عيسى على هذا الغلام، ورفع الله سبحانه وتعالى عيسى إليه) ، كما قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158] ، {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء:157] ، فرفع عيسى عليه الصلاة والسلام وألقي شبهه على هذا الغلام، فدخل اليهود الذين كانوا قد أصدروا حكماً بصلب عيسى على الحواريين، فرءوا هذا الشاب وقد تصور بصورة عيسى، وألقي عليه شبه عيسى كما قال تعالى: {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} ، فأخذوه وصلبوه، وادعوا أنهم صلبوا عيسى.
فاختلف الحواريون الجلساء في الأمر، فقال فريق منهم: هو الله كان بيننا ما شاء أن يكون ثم صعد، وقال آخرون: لا، بل هو ابن الله أرسله الله سبحانه كي يذبح أو يصلب تكفيراً لخطيئة آدم، وقال آخرون: هو عبد الله ورسوله.
فالطائفة التي قالت: هو الله.
هم اليعقوبية، والطائفة التي قالت: هو ابن الله.
هم النسطورية، والطائفة الثالثة هي الطائفة المسلمة، فتعاضدت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة التي قالت: هو عبد الله ورسوله فقاتلوها، فمنهم من ثبت في القتال وقاتل حتى قتل، ومنهم من هرب إلى الفيافي والقفار والصوامع يعبد الله سبحانه وتعالى، وما زال الأمر مطموساً إلى أن أيد الله سبحانه وتعالى هذه الفئة المؤمنة ببعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا عند طائفة من المفسرين هو المراد بقوله تعالى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا} أي الذين آمنوا بعيسى أيدناهم ببعثة محمد عليه الصلاة والسلام إليهم، {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي: فوق عدوهم، وذلك ببعثة الرسول عليه الصلاة والسلام، قال الله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء:157] ، وهذا كلام ربنا سبحانه، وهذا الفارق بين الإسلام والنصرانية، وهو من أقوى الفوارق بعد قضايا التوحيد الكبرى، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} ، هذا كلام الله سبحانه، فكل من ادعى أن المسيح قد صلب فهو كذاب أشر، مخالف لكلام الله ومخالف لكلام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وثم وجه آخر من أوجه التأويل: أن التأييد والظهور بالحجة والغلبة والبيان، وأن: التأييد سيكون بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام في آخر الزمان، كما قال ربنا سبحانه في كتابه الكريم: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف:61] .
قوله: ((وَإِنَّهُ)) ، للعلماء فيها قولان: الأول: أنها راجعة إلى عيسى، وأن نزوله من علامات القيامة، وأن مبعثه ومخرجه علامة على اقتراب الساعة.
الثاني: من العلماء من قال: هي راجعة إلى الرسول، لكن القول الأول هو الأشهر.
وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، فيقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، ولتتركن القلاص فلا يسعى عليها) ، والقلاص هي الإبل.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.