قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ} [الصف:7] ، صيغة: (ومن أظلم) وردت في هذا الموطن؛ لتفيد: أنه لا أحد أبداً أظلم ممن افترى على الله الكذب، ولكن جاءت هذه الصيغة في مواطن أخر، كقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة:114] ، وحديث: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؛ فليخلقوا حبة، أو ليخلقوا ذرة، أو ليخلقوا شعيرة) ، ونحو هذا كثير، فكيف يجمع بين هذه الأشياء؟ وأيهما أظلم: هل أظلم الناس من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه أو أظلم الناس من افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم، أو أظلم الناس من ذهب يخلق كخلق الله؟ لقد جمع العلماء بين هذه النصوص بعدة أوجه، منها: أنهم قد يكونون كلهم في الظلم سواء، وكلهم في الدرجة العليا من الظلم، أي: ينزل على الاختصاص، بمعنى: لا أحد من المانعين أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ولا أحد من الكاذبين أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم، ولا أحد من المصورين أظلم ممن ذهب يخلق كخلق الله ويباهي بخلق الله؛ فينزل على الاختصاص.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلامِ} ، توجه له الدعوة بالخير وهو يأبى، ويقلبها إلى جحود وكفر! قال الله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الصف:7] ، الإجابة على قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} كما تقدم في قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
لكن قد يرد إشكال: كيف هذا والله قد هدى بعض الظالمين، بل كثيراً منهم؟ فكيف يلتئم قوله: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} مع الواقع الذي فحواه: أن من الظالمين من هداه الله؟ فالإجابة من وجهين: الوجه الأول: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، الذين سبق في علم الله أنهم سيموتون على الكفر، هؤلاء لن يهديهم الله، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} [يونس:96-97] .
الوجه الثاني: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} ، ما داموا قائمين على ظلمهم ولم يسلكوا سبل الهداية.
هذان هما الوجهان، والله أعلم.
ويراد بالظلم هنا: الشرك، وإطلاق الظلم على الشرك وارد في كتاب الله، قال الله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] أي: بشرك، كما فسرها الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] .
وقد تقدم مراراً أن أهل السنة والجماعة على وجود ظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وكفر دون كفر، وشرك أكبر وشرك أصغر، ونفاق عمل ونفاق اعتقاد، وتقدم تقرير ذلك.