قال تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الحشر:13] .
أي: يا أهل الإيمان! أنتم (أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) ، فمن غبائهم أنهم يخافون منكم -يا أهل الإيمان- أكثر من خوفهم من الله سبحانه وتعالى! فمن غباء اليهود وجهلهم، ومن جهل أهل النفاق، ومن جهل الكفار بصفة عامة أنهم يعملون للمؤمنين حساباً أكثر من هذا الذي يعملونه لربهم سبحانه وتعالى! فهم يرهبون السيف ولا يرهبون الرب سبحانه وتعالى، ويرهبون البشر ولا يخافون من رب البشر، وهذا دليل على ضعف الإيمان في قلوبهم، وعلى جهلهم وقلة علمهم، كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) .
قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14] .
أفادت هذه الآية أن اليهود وأهل النفاق جبناء، وهذا الجبن منشؤه حب الدنيا وقلة اليقين في الآخرة، فهم يريدون أن يستمتعوا بحياتهم الدنيا كما قال سبحانه وتعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة:96] .
فقوله سبحانه: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ) هذا في شأن اليهود، فهم أشد الناس حرصاً على الحياة، وقوله تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) فيها تأويلان: أحدهما: أن المعنى: لتجدن اليهود أشد الناس حرصاً على الحياة، وأشد من الذين أشركوا، ويكون قوله تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) راجعاً إلى اليهود، فكلها تكون في اليهود.
الثاني: ولتجدنهم أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا الذين يود أحدهم لو يعمّر ألف سنة، فالذين أشركوا -على التأويل الآخر- يطمع أحدهم أن يعيش ألف سنة، واليهود أشد منهم حرصاً على هذه الحياة، فمصدر الجبن عندهم حبهم الحياة.
قال تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} [الحشر:14] سبب هذا القتال (مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) هو -كما سبق- الجبن المستكن في نفوس اليهود وصدورهم، وهذا الجبن سببه الحرص على الحياة، فإذا كان هناك يقين بالآخرة وبلقاء الله، فسيتحول الأمر كما تحول مع عمير بن الحمام رضي الله تعالى عنه لمّا سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض) ، وكان بيده تمرات يأكلهن فقال: والله! إنها لحياة طويلة إن عشت حتى آكل هذه التمرات، ثم ألقاهن وقاتل حتى استشهد رضي الله تعالى عنه.
وكما قال سحرة فرعون لما أيقنوا بلقاء الله واليوم الآخر: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] ، فالجبن المستكن في الأنفس، وحب الدنيا وحب الاستمتاع بها؛ هو الذي حملهم على القتال من وراء جدُر، فالتلذذ بالحياة والدنيا غاية المراد عندهم؛ إذ لا يقين عندهم بالله تعالى، ولا باليوم الآخر، وأما أهل الإيمان فليسوا كذلك، بل علموا أن الدنيا بما فيها كلها سجن للمؤمن وجنة للكافر.
وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى.