باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة:12] .
هذه الآية على رأي جماهير أهل العلم منسوخة، فكل مفسر ساق في تفسيره قول من قال بالنسخ، نسختها الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} [المجادلة:13] .
وقد وردت جملة أسانيد، وإن كان في كل منها مقال، تفيد: أن الذي عمل بهذه الآية هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحده دون سائر الصحابة؛ وذلك أنه عندما نزلت آية النجوى هذه: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12] عمد رضي الله عنه إلى دنانير فقسمها، وكان إذا أراد مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم قدم صدقة بين يدي مناجاته، ثم نسخت الآية، قالوا: ولم يعمل بها غير علي رضي الله تعالى عنه، وقد ورد ذلك كما أسلفنا من عدة طرق، وإن كان في كل منها مقال، لكن بعض العلماء حسنها بمجموعها، فالله سبحانه وتعالى أعلم.
وكان سبب نزول هذه الآية فيما ذكره المفسرون -وإن لم يرد بذلك إسناد صحيح- أن الناس كانوا يكثرون من مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيشق ذلك على رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأراد الله ضبط هذه المسألة، ورفع المشقة عن سائر المسلمين الذين يريدون شيئاً من وقت الرسول عليه الصلاة والسلام، ورفع العناء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية لضبط أمر المناجاة، فمن ثمّ لم يقدم إلا من كانت له حاجة ماسة إلى المناجاة، وإلا فسيعرض عن المناجاة من الأصل.
فإن قال قائل: ما هو وجه المشقة على المسلمين في إطالة بعضهم المناجاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فالإجابة: أن المناجاة في حد ذاتها في الجملة فيها أذى، في الغالب إذا رأيت اثنين يتناجيان ذهبت بك الظنون واستحوذ الشيطان عليك في كثير من الأحيان، ولذلك فالمناجاة في الغالب أو في الجملة تذم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] ، فحتى أهل الإيمان إذا رأى بعضهم اثنين يتناجيان دخل في قلبه شيء، ودخل له الشيطان من هذا المدخل، وقال: بم يتناجيان؟ لعلهما يتناجان في أمر يخصك ويريدان كتمان هذا الأمر عليك، لعلهما، لعلهما، لعلهما!! فالمسلمون كذلك مع الرسول عليه الصلاة والسلام، كثرة إطالة المناجاة قد تحمل البعض على أن يفكر: هل هناك عدو يريد أن يداهم بلاد المسلمين؟ هل أصيب الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء؟ هل آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم أصابهم شيء؟ هل نزل شيء جديد من كتاب الله؟ ما الذي حدث؟ كانت تسبب أيضاً مشاكل ووساوس في صدور البعض، وخاصة صدور من قلّ علمهم بالله وقلّ علمهم برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيشق الأمر على المسلمين، فنظمت الأمور بصدقة تقدم بين يدي المناجاة على النحو الذي سمعتموه.