قال تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد:7] .
قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} الخطاب هنا موجه لأهل الإيمان على قول بعض أهل العلم، فيرد على هذا القول إشكال فحواه: كيف يوجه لهم الأمر بالإيمان وهم في الأصل مؤمنون؟! فمن العلماء من أجاز ذلك على أن المراد: زيدوا في إيمانكم بالله ورسوله، وزيدوا تصديقاً لله تعالى، وزيدوا تصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء:136] ، فالمعنى إذاً: ليزدد إيمانكم بالله ورسوله.
وعليه فيكون في هذا الدليل دليلٌ لأهل السنة والجماعة القائلين بأن الإيمان يزيد وينقص، والأدلة على هذا متعددة، كقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] ، وقوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة:124] ، وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] ، وقال تعالى حكاية عن الخليل إبراهيم صلى الله عليه وسلم: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] .
قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ذكر بعض أهل العلم أن بينها وبين قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} رابطاً قوياً، وهو أن قوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي: صدقوا الله ورسوله وأنفقوا.
فنصدق الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء حتى في الإنفاق أيضاً، فقد قال لنا ربنا سبحانه وتعالى: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [التغابن:17] ، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ:39] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم تطلع فيه الشمس وإلا وبجنبتيها ملكان يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) ، فإذا كنت موقناً بأن الله تعالى يخلف على المتصدق، وبأن الملك يدعو للمتصدق بأن يخلف الله تعالى عليه، وازداد بذاك يقينك وإيمانك حملك ذلك على استقبال قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ، بالأنفاق السريع، وبالامتثال السريع.
وهذا يفيد في مسائل من الدعوة إلى الله تعالى، وفي مسائل التعامل مع الخلق.
فيمهد للتعامل مع الخلق بالتذكير بالله تعالى بالإيمان به، كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل في معاملته مع الناس، ومعاملته مع أهل الإيمان، وأحكامه في القضايا، فكان دائم التذكير بالإيمان بالله تعالى قبل أن يفصل في القضايا، فمن ذلك قوله الله عليه وسلم في قصة المتلاعنين قبل أن يقضي بينهما، وقبل أن يبدأ اللعان: (الله أعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟) .
وفي سائر قضاياه يقول للمتخاصمين قبل الحكم: (إنكم تختصمون لدي ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجته من أخيه فأقضي له بحق أخيه، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار، فإن شاء قبلها وإن شاء ردها) ، فكان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر الناس بالله تعالى، ويذكر الخصوم بالله تعالى قبل أن يبدأ في فضّ النزاع والقضاء بينهم.
فلهذا يشرع التذكير بالله تعالى قبل إبداء الأوامر، وقبل إبداء النصائح، حتى مع العدو الصائل، أو مع من يخشى معه الشر، فيشرع تذكيره كذلك بالله تعالى، فقد حكى الله تعالى عن مريم عليها السلام لما تمثل لها الملك بشراً سوياً قولها: {إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا} [مريم:18] أي: ألجأ وأستجير بالرحمن منك.
وفي حديث صلى الله عليه وسلم عن المرأة التي جلس بين رجليها ابن عمها ليرتكب معها المحرم قالت مذكرة له بالله تعالى: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه.
فقوله تعالى: {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي: صدقوا الله ورسوله فيما أخبراكم به على وجه العموم، وصدقوا الله ورسوله فيما أخبراكم به من أن المنفق يخلف الله سبحانه وتعالى عليه.
ثم جاء الأمر بالإنفاق فقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} ، وفي هذه الآية تجريد لك من المال الذي بين يديك، فليس لك الحق في المال الذي بين يديك تعبث فيه كما تشاء، وتتصرف فيه كما تريد، فقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن الإسراف فقال تعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] ، ونهانا عن التبذير فقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء:27] ، وقال سبحانه: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء:26] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الاقتصاد والسمت الحسن جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة) ، فليس لك أن تتصرف بالمال الذي بين يديك يمنةً ويسره كما تشاء، فأنت مسئولٌ عن الاستخلاف في هذا المال وبما عملت فيه، ومسئولٌ عن طريق اكتسابه، ومسئولٌ عن موضع إنفاقه.
والذين ينفقون الأموال في الإضرار بالمسلمين والإضرار بمن استرعاهم الله تعالى إياهم كلهم مسئولون أمام الله تعالى عن خيانة هذه الأمانة التي حملهم الله تعالى إياها.
قوله تعالى: {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} في الآية إيماء بالرد على المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان كبيرة، ولا ينفع كذلك -عند بعضهم- مع الإيمان كبير عمل.
كما أن فيها أن الإنفاق بدون إيمان لا ينفع صاحبه، فقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله: ابن جدعان كان يقري الضيف ويفعل ويفعل، فهل نفعه ذلك؟ فقال: لا يا عائشة، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) ، فلا بد مع الإنفاق من إيمان، وإلا فرب العزة يقول: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] ، ويقول تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم:18] ، ويقول سبحانه في الحديث القدسي: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) .