تفسير قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون)

قال تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] والمس له معان متعددة، فأحياناً يطلق على اللمس باليد، ومنه قول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (والله! ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط) ، فالمس هنا أطلق على اللمس باليد، وأحياناً يطلق المس على الجماع كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] فالمس هنا المراد به: الجماع، وأحياناً يطلق المس على التذوق، وأحياناً يطلق المس على عموم التعامل كما في قول موسى عليه السلام للسامري: {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} [طه:97] أي: لن يتعامل معك أحد، ولن يقترب منك أحد، على قول بعض المفسرين.

فقول تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] .

من العلماء من قال: إن المراد بالمس في هذه الآية اللمس باليد أو بالجارحة، ثم قال: إن المراد بالمطهرون هنا هم الملائكة.

واختلف المفسرون في قوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] اختلفوا في (الهاء) التي في قوله: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] إلى من ترجع؟ فمن العلماء من قال: راجعة إلى المصحف الذي بين أيدينا، ومنهم من قال وهم الأكثر: إنها راجعة إلى المذكور في الآية وهو الكتاب المكنون، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77-78] أي: كتاب محفوظ لا يمس هذا الكتاب المكنون إلا المطهرون وهم الملائكة، واستدلوا لذلك بقول الله تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:13-16] ، فآيات سورة عبس فسرت بها آيات سورة الواقعة، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة:77-78] أي: محفوظ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] وهم الملائكة، والسفرة: هم الملائكة كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة) ، فهذا وجه للمفسرين، وعليه أكثرهم.

ثم أيدوا قولهم بأن قالوا: في الحياة الدنيا قد يتجرأ كافر ويلمس القرآن، فقد يأتي نصراني نجس أو يهودي جنب أو مشرك خبيث المعتقد ويمس القرآن، بل الآن هناك من يطبع القرآن في دول الكفر، وأفخر الطبعات للمصاحف تأتي من بلاد الأوروبيين.

وأوردوا حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض الشرك) مخافة أن يناله المشركون بالتدنيس والتلويث.

ومن العلماء من قال: إن المراد بقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] أي: المصحف الذي بين أيدينا، ثم اختلفوا في (المطهرون) من هم؟ فقال فريق من أهل العلم: إن المراد بالمطهرين المؤمنون، وغير المطهرين هم المشركون؛ لقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28] .

ثم قال فريق منهم أيضاً: إن قوله: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] أي: لا يتذوقه ولا يعرف حلاوته ولا يفهمه إلا أهل الإيمان، أما من حجب عن هذا القرآن من أهل الكفر فلا يفهم معانيه ولا يتأملها.

قول ثالث: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة:79] أي: لا يلمسه إلا المطهرون من الأحداث، أي: من الجنابة ومن الحدث الأصغر، واستدلوا بهذا القول بحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه: (لا يمس القرآن إلا طاهر) ، وهذا الحديث بكل طرقه لا يثبت عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو ضعيف من كل الطرق وأشار إلى هذا الضعف الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره، فتبين -والله سبحانه أعلم- أن المراد بـ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:79] الكتاب المكنون، والمطهرون هم: الملائكة؛ وذلك لأن سياق الآيات يدل على أن القرآن الكريم في الكتاب المكنون، وقوله: (لا يمسه) الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، والثاني: أنه فسر بآيات سورة عبس، وثم وجوه أخر لترجيح هذا الوجه، وقد قال به جمع كبير من المفسرين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

على ذلك: إذا جاء شخص يقول: هل لغير المتوضئ أن يمس المصحف؟ فلقائل أن يقول بناءً على هذا التأويل السابق الذي هو تفسير المطهرين بالملائكة: لا أعلم دليلاً صحيحاً صريحاً يمنع من مس المصحف، أما من اختار أن المطهرين هم المطهرون من الأحداث وغيرها، فحينئذٍ يمنع الجنب والذي ليس على وضوء من مس المصحف، وكذلك يمنع الحائض، أما الذي يرى التأويل الأول فحينئذٍ لا يمنع من مس المصحف.

فعلى ذلك: هذه المسألة خلافية، فإذا تبين لك رأي فخذ به، ولا تشدد على من تبنى الرأي الآخر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015