هذا بحث عاجل وسريع حول مسألة الإصرار على الحنث العظيم على تأويل من فسر الحنث العظيم بأنه الذنب وليس الشرك، أما تفسير الحنث العظيم بأنه الشرك فلا إشكال فيه؛ لأن نصوص الشريعة تشهد بأن من أصر على الشرك ومات عليه فإنه من أصحاب الشمال، لكن التوجيه على رأي من قال: إن الحنث العظيم هو الذنب العظيم ما دون الشرك، فهل الإصرار على الذنب العظيم الذي هو دون الشرك يجلب لصاحبه الخلود في النار؟
صلى الله عليه وسلم القواعد الكلية لأهل السنة والجماعة تفيد أن الإصرار على الذنب العظيم الذي هو دون الشرك كالإصرار على الزنا مثلاً أو الإصرار على القتل، فالإصرار على ذلك ليس بموجب للخلود في النار؛ لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:116] ولقول الله سبحانه وتعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:284] ولقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] ؛ ولحديث البطاقة الذي فيه: (أن الله سينادي رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيقول الله سبحانه وتعالى: انشروا له صغار ذنوبه، وأخفوا عنه كبارها، فيخرجون سجلات طويلة سجلت فيها معاصيه وذنوبه، طول هذه السجلات مثل مد البصر! فيقول الله سبحانه وتعالى له: أظلمناك شيئاً؟ فيقول: لا يا رب! فيقول الله: أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب! يقول الله: أتنكر من هذا شيئاً؟ فيقول: لا يا رب! فتوضع في كفة، ثم يقول الله له: إن لك عندنا حسنة، وإنك اليوم لم تظلم، فتخرج له بطاقة فيها: لا إله إلا الله فتوضع في الكفة الأخرى، فتطيش بتلك السجلات، ولا يثقل مع اسم الله شيء) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث قد يفهم على غير وجهه، كما فهمه بعض أهل الإرجاء، ولكن فهمه عند أهل السنة أنه مثال لرجل أراد الله أن يغفر له، وليس بلازم أن يغفر الله لكل مجرم، وليس بلازم أن يغفر الله لكل مسرف على نفسه، بل كما سمعتم {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:21] ، فالمصر على المعصية حتى يموت عليها، ولم يتب منها؛ ليس بلازم عند أهل السنة والجماعة أن يعذب.
والمقام مقام تحرير المسائل العلمية، ليس مقام تخويف ولا ترهيب، فنحن في وسط إخواننا طلبة العلم، فالمقام مقام تحرير مسائل علمية، فمن أصول أهل السنة والجماعة ما سمعتموه، ويشهد لهذا المعنى حديث البغي التي كانت تتكسب من الزنا والعياذ بالله! فمرت ذات يوم بكلب يلهث من العطش، فنزعت موقها وملأته ماءً من بئر وسقته، فشكر الله لها، فغفر لها، وأدخلها الجنة، ولم يذكر في الحديث أنها تابت من هذا الذنب، فأمر ذلك إلى الله سبحانه، لكن {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] .