غربة الدين آخر الزمان

قال الله سبحانه وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:10-14] هذا فيه بيان لانصراف الناس عن الدين في آخر الزمان، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث أنس رضي الله عنه: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ، فبسبب بعد العهد عن الرسالات ينسى الناس كثيراً مما ذكروا به، كما قال الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ} [الحديد:16] أي: طال عليهم الأمد بينهم وبين الرسل الذين كانوا يذكرونهم، فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون.

فبالبعد عن أزمنة الخير ينسي الناس كثيراً مما ذكروا به، فكما قال القائل: تزينت الدنيا لخطابها، فنسي الناس كثيراً مما ذكروا به، وانغمسوا في ملذاتها وشهواتها، فقل منهم الصابرون على تعاليم الدين، وقل منهم الصابرون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أصبحوا موضع اتهام لاتباعهم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فطعن فيهم الطاعنون، وأرجف وضحك منهم المرجفون، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين:29-32] ، فلم يصبر كثير من الناس على ازدراء أهل الغفلة، ولم يصبر كثير من الناس على ظلم أهل الظلم والعدوان، فنكصوا على أعقابهم، ورجعوا تاركين وراءهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وتاركين لكتاب ربهم، فقل أهل الفضل وأهل الخير، وقل أهل الثبات والصلاح في الأمم المتأخرة وأصبحوا غرباء.

فلذلك قال سبحانه وتعالى في شأن المقربين: {وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ} [الواقعة:14] أي: قلة قليلة من الأمم التي بعد عهدها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأخرت أزمانها عن أزمنة أصحابه رضي الله تعالى عنهم، ثم قال سبحانه في بيان ما أعد الله لهؤلاء المقربين {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة:15] أي: منسوجة، قال العلماء: منسوجة بالذهب {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} [الواقعة:16] وتقدم تفسير الاتكاء.

وفي قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16] أدب من آداب المجالسة، فإذا جالست قوماً أو تخاطبت مع قوم فأقبل عليهم بوجهك، وأصغ إليهم بسمعك، لا تقابلهم وأنت ثاني العطف كما قال تعالى: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الحج:9] ، ولا وأنت مصعر لخدك كما حذر لقمان ولده من ذلك {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا} [لقمان:18] ، فكل هذه من المقابلات المذمومة، ولكن فصل الخطاب مع الناس وحسن اللقاء معهم يستلزم منك أن تقبل عليهم بوجهك، وأن تصغي لهم بسمعك، فالله يصف أهل الجنة بقوله: {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة:16] أي: بعضهم يقابل بعضاً، وبعضهم يقبل بوجهه على بعض.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015