الإسلام كلٌ لا يتجزأ، ومن ثم لا أريد أن أتوقف مع كل جانب من هذه الجوانب لأبين كيف قدم الإسلام تصوراً شاملاً كاملاً، فإن هذا معلوم لكل أحد، ومن أراد أن يبحث سيجد كل هذه التفصيلات كاملة شاملة، ولكني أقول بهذا التكامل والشمول: يجب على المسلمين أن يأخذوا الإسلام ويطبقوه، لماذا؟ لأن الله جل وعلا قد عاب وأنكر أشد الإنكار على اليهود الذين أخذوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر، فقال جل وعلا: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85] .
وأقول بملء فمي: ورب الكعبة، لقد وقع بعض أبناء المسلمين فيما وقع فيه اليهود، فلقد آمن بعض أبناء الأمة ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر، إن لم يكن بقلوبهم فبسلوكهم وأعمالهم، وإذا كذَّب العمل القلب حكم على صاحب هذا بالنفاق بكلام الحق جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:60-61] فمن صد عن كتاب الله وسنة رسول الله فهو منافق بحكم الله.
إننا نرى صنفاً يريد الإسلام عقيدة مجردة، ويكفيه وحسبه أن يتلفظ بالشهادتين، ليأخذ صكاً بدخول الجنة والنجاة من النار، يردد الشهادتين بغير عبادة، وبدون عمل، وهو يعتقد أنه بذلك من أهل الجنة، بل وقد يقول بلسان الحال، بل وبلسان المقال: إن لم أدخل الجنة أنا فمن يدخلها؟! وظن أن مجرد النطق بالشهادتين يعطي صكاً لدخول الجنة والنجاة من النار، ووالله لقد نطق بالشهادتين رأس النفاق عبد الله بن أُبي بن سلول أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت كلمة التوحيد قد نفعته في الدنيا فعصمت دمه، وحفظت عليه ماله، وتزوج من المسلمات المؤمنات، وحضر الجمعات والجماعات، واقتسم الغنائم في الغزوات، إن كانت كلمة التوحيد قد نفعته في الدنيا فلن تنفعه في الآخرة، كما قال الله جل وعلا: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1] .
فكلمة التوحيد قد قيدت بشروط ثقال، لا ينبغي أن نغفل عنها -أيها الأحبة- وأكتفي بذكر حديث واحد مقيد للأحاديث المطلقة، ففي الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل) وفي رواية عتبان بن مالك: (فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله عز وجل) هذا حديث عند علماء الأصول يسمى بالحديث المُقيِّد، أو مُقيَّد يقيد الأحاديث المطلقة التي وردت في فضل النطق بالشهادتين.
فلا بد أن نعرف لها شروطها، وأن نحقق مقتضياتها وأركانها، لتنفعنا هذه الشهادة في الآخرة كما نفعتنا في الدنيا أرجو الله ذلك، فمن الناس من يريد الإسلام عقيدة مجردة، حسبه أن ينطق بالشهادتين ليأخذ صكاً بدخول الجنة والنجاة من النار، بغير عبادة وبدون عمل.
ونرى صنفاً ثانياً يريد الإسلام عبادة بلا أخلاق، أو أخلاقاً بلا عبادة.
ونرى صنفاً ثالثاً يريد الإسلام عقيدة وعبادة وأخلاقاً، ولكنه لا يريد الإسلام نظاماً للحياة وشريعة للكون، إنما يريد قانون أوروبا أو أمريكا الكافرة أو الشرق الملحد.
يريد الإسلام عقيدة وعبادة وأخلاقاً، ولكنه لا يريد الإسلام نظاماً للحياة وشريعة للكون، فهو في المسجد مسلم يؤدي الفرائض ويقرأ القرآن، ويقرأ آية الكرسي، ويتبرك بها في سورة البقرة، وفي السورة نفسها يمتثل أمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] وفي السورة نفسها يضيع أمر الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة:178] .
ويضيع أمر الله في نفس السورة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] .
يمتثل أمر الله في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] ولا يمتثل أمر الله، بل ويتحدى أمر الله في السورة ذاتها: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:44-45] {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47] .
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة:85] ورب الكعبة، لقد أخزى الله الأمة في الحياة الدنيا إلا من رحم ربك جل وعلا؛ لأن الأمة آمنت بالبعض وكفرت بالبعض الآخر، أخذت ما تشتهي وتريد، وضيعت ما شاءت وأرادت، وهانحن الآن نرى الذل الذي أصاب الأمة؛ لأنها قد حرّفت وغيّرت وبدّلت وابتعدت عن منهج الله جل وعلا {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ} [البقرة:85] ونسأل الله السلامة والعافية، إن لم نتب، وإن لم نرجع إلى الله ونحقق منهج الله، وإن لم نحقق قرآن الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ألفها إلى يائها، نخشى أن يتحقق شطر الآية الثاني أسأل الله لي ولكم العافية.
هذه لمحات سريعة لا أريد أن أطيل أكثر من هذا -أيها الأطهار الأخيار- في معنى التكامل والشمول، كخاصية فريدة من خصائص المنهج التربوي الإسلامي، ففي كل جانب من جوانب الحياة وفي كل مجال من مجالاتها قدم المنهج التربوي تصوراً كاملاً شاملاً، ومن ثم إذا ضيع الإنسان هذا المنهج الكامل الشامل، وراح ليضع لنفسه منهجاً يحاكي هذا المنهج الرباني، وقع في هذه الفضائح، وفي هذا الخلط الشائن والانفصام النكد، ولا سعادة له في الدنيا ولا في الآخرة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124-126] .
يبقى لنا من خصائص المنهج التربوي: التوازن والاعتدال، والتميز والمفاصلة.
أرجو الله في محاضرة قادمة أن أكمل لحضراتكم هذه الخصائص لنواصل بعد ذلك إن شاء الله تعالى هذه السلسلة التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها.