هناك أصل لابد أن نقرره، وهو: أن فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان، لكن لابد أن نعرف أن تارك العمل يستحق دخول النار والمعاقبة على ذلك كما سنفصل إن شاء الله فيما بعد.
وكما أن الكفر في القرآن والسنة قد يراد به الكفر الأكبر الذي يخرج الإنسان من الملة تماماً، وقد يراد به الكفر الأصغر الذي لا ينقل صاحبه عن الملة.
فمسألة الخلود في النار هي الحد الفاصل بين نوعي الكفر؛ إذ الكفر الذي يخرج من الملة هو الذي يستوجب صاحبه الخلود في النار، أما الكفر الذي هو دون كفر فهو الذي لا يخرج من الملة، لكنه ينقص الإيمان وإن كان يوجب دخول النار.
فالنوع الأول: يوجب لصاحبه الخلود في النار.
والنوع الثاني: يوجب لصاحبه الوعيد دون الخلود في النار.
وليس هذا تهويناً من شأن الكفر الأصغر، فإنك إذا تخيلت قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى بأنعم أهل النار من أهل الدنيا، فيصبغ في جهنم صبغة، أو يغمس فيها غمسة واحدة، ثم يخرج منها ويقال له: يا ابن آدم! هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول: لا والله يا رب! ما رأيت نعيماً قط، ثم يؤتى بأبأس وأشد أهل الجنة من أهل الدنيا، فيغمس في الجنة غمسة، ويخرج منها، فيقال له: يا ابن آدم! هل مر بك بؤس قط؟ هل رأيت شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب)، يحلف وهو صادق؛ لأن هذا الذي رآه أنساه كل ما رآه في الدنيا من بلاء، مع أنه كان أشد الناس بلاءً في الدنيا، لكنه كان مؤمناً.
فإذا كان أنعم الناس في الدنيا إذا غمس في النار غمسة سوف تنسيه هذه الأهوال كل النعيم، وإذا كان أهون الناس عذاباً في النار من تكون قدماه على جمر من النار تغلي منها دماغه، فكيف يتعرض الإنسان لمثل هذه النار التي قال الله تبارك وتعالى فيها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]؟ هذا الإنسان الذي ينتحر ويقتل نفسه، ويضيع هذه الأمانة التي وهبها الله إياه، ويعجل الموت لنفسه، وفي الغالب يكون السبب ضائقة مالية، أو مرضاً أو بلاءً لا يصبر له، فهو لقصور عقله يريد الراحة، ولو فقه لعلم أنه يجلب لها تعباً لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، وسيظل يتعذب بهذا العذاب إلى ما شاء الله عز وجل؛ لأنه عاجل الله بنفسه، وضيع هذه الأمانة وهذه النعمة نعمة الحياة، جاء في الحديث: (فمن تحسى سماً فسمه في يده يتحساه إلى يوم القيامة، ومن ألقى نفسه من أعلى جبل يعذب في القبر بنفس هذا العذاب إلى يوم القيامة، ويظل يلقي بنفسه من شاهق) إلى غير ذلك من الأحاديث.
فالشاهد أن الشيطان قد يهون على الإنسان الأمر، ويقول: أنت على التوحيد فلا تبالي، لكن المعاصي بريد الكفر، والعاقل لا يتعرض لغضب الله عز وجل، كما يقول بعض السلف: لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت.
ويقول أنس رضي الله عنه: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات.
قال عليه الصلاة والسلام: (إياكم ومحقرات الأعمال؛ فإن لها من الله طالباً، وإنهن يجتمعن على رجل حتى يهلكنه، وضرب لها رسول الله صلى الله عليه وسلم مثلاً بقوم نزلوا بأرض فلاة، فحضر صنيع القوم -أي: وقت الطعام- فجعل الرجل يجيء ببعرة، والرجل يجيء بعود، حتى جمعوا منها قدراً عظيماً وأججوا ناراً عظيمة) ومعظم النار من مستصغر الشرر.
فعندما تتهاون في شيء وتضم بجانبه شيئاً آخر، حتى يضيع تعظيم حرمات الله من قلبك، فتجتمع عليك محقرات الأعمال فتهلكك بذلك.
وما من شك أن النبي عليه الصلاة والسلام لو أراد من قريش أو غيرهم ممن دعاهم إلى الإسلام الإيمان بمجرد قول كلمة لا إله إلا الله، ولا امتثال وراءها ولا أعمال ولا تكاليف؛ لسارع الناس في الدخول في الإسلام، لكنه أراد الكلمة وما بعدها من امتثال وإذعان لحكم الله عز وجل، ولذلك أخذ العهود من الأنصار على النصرة، وأخذ العهود من المهاجرين على بذل المال والهجرة، وأخذ من المهاجرين والأنصار العهود على الموت في سبيل الله تبارك وتعالى، وما وعد كل أولئك إلا الجنة بعد العمل والجهاد، فهل يظن بعض ضعاف النفوس أن تكون لهم الجنة بمجرد كلمة يقولها أحدهم بلسانه لا يكلف نفسه بعدها عناء؟ لا ركوع ولا سجود ولا صيام ولا يخرج حتى قليلاً في سبيل الله، ولا يقول لله كلمة حق، ويزعم بعد ذلك أن الجنة نصيبه! هيهات هيهات، فإن الإيمان عقيدة والتزام، تصديق وعمل، وليس هناك إيمان بغير هذا.