لقد تكلمنا فيما سبق عن الجذور التاريخية لبدعة تكفير المسلمين، وتكلمنا عن تطور هذه التوجهات المنحرفة في قضية التكفير، ابتداء بالشيعة ثم الخوارج ثم المعتزلة ثم المرجئة، وتكلمنا أيضاً عن أسباب ظهور بدعة تكفير المسلمين في العصور الحاضرة، وذكرنا أن الظروف التي نشأت فيها هذه البدعة كانت ظروفاً خاصة، وكانت لأسباب منها: الاضطهاد السياسي الذي كان التكفير رد فعل مقابل له، ومنها: فقدان الثقة بعلماء السلطة، ومنها: محاولة جمع من الفتية أخذ الأحكام من القرآن مباشرة دون الرجوع إلى فهم أهل العلم لأدلة القرآن والسنة، وبسبب عدم تأهلهم ربما نظروا من خلال أطراف من النصوص مع إهمال البعض الآخر.
ومن هذه الأسباب: الخلط بين الكفر الأكبر والكفر الأصغر، أما آخر أسباب هذه الظاهرة فهي تعلق هؤلاء ببعض ما قاله الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله، والشيخ سيد قطب رحمه الله تعالى؛ وذلك أن الشيخين صدر منهما في بعض المؤلفات عبارات فهمت خطأ، أو تكون هي نفسها إذا عرضت على ميزان عقيدة أهل السنة والجماعة يكون فيها بعض النظر، خاصة ما ورد في مقدمة سورة الأنعام في تفسير الظلال، وما جاء في كتاب (المصطلحات الأربعة) للشيخ: أبي الأعلى المودودي رحمه الله تعالى، والقاعدة التي أرساها الإمام مالك رحمه الله تعالى؛ بل حكاها عنه الشافعي حينما حضر عليه في المسجد النبوي بالمدينة، كان يجلس الإمام مالك رحمه الله بجوار قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان كلما ناقشه أحد في قضية خالف فيها الدليل، فكان الإمام مالك يمد يده ويقول: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، ويشير أو يضع يده على قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
فنناقش إن شاء الله تعالى بالتفصيل موقف المودودي وسيد قطب رحمهما الله في قضية الكفر والإيمان، وما هي المواضع المحددة المعينة التي أدت إلى تغذية فكر التكفير من خلال عبارات معينة صاغها الشيخان.
يرى الشيخ المودودي في كتابه: (المصطلحات الأربعة) أن هناك فهماً للمصطلحات الأربعة التي هي: العبادة، والرب، والدين، والإله.
هذا الفهم كان عند العرب موجوداً بحكم السليقة العربية، وفقههم لمعاني الكلام في اللغة؛ فلذلك كان أحدهم إذا نطق بكلمة التوحيد؛ فإنه كان يدرك تماماً ما يستتبعها من معان ولوازم، فإذا ما جاء بعد ذلك من ليس على نفس هذه السليقة العربية ونطق بكلمة التوحيد دون أن يحيط علماً بمعانيها ومرامها ولوازمها فهذا لم يدخل في الإسلام أصلاً.
وهذا الكلام الغريب لم يعهد من قبل، ولم يصدر فيما نقل من كلام العلماء إلا فيما ذهب إليه العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في كتابه: (تطهير الاعتقاد عن أدران الكفر والإلحاد) فقد قال من قبل هذه المقولة، وأنكر عليه كثير من العلماء حين قال: إن من لم يحط علماً بلوازم هذه الكلمات: العبادة، والرب، والدين، والإله كما كان السلف أو كما كان الصدر الأول، بسبب علمهم باللغة العربية؛ فمن نطق بها ولم يعلمها كما علموها فهو كافر أصلي لم يدخل في الإسلام أصلاً، ولا شك أن في هذا مصادمة صريحة لنصوص النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي تثبت الإسلام لمن نطق بالشهادتين.
وردد الأستاذ سيد قطب رحمه الله في مواضع كثيرة عبارات المودودي رحمه الله؛ ونظراً لأن الاكتظاظ في الكلام في هذه المواضع قد يؤدي إلى سوء فهمها نرجئها إلى موضعها المناسب، ونتكلم فيها إن شاء الله بعد ذلك بالتفصيل.