حيث اشترطوا -أيضاً- لتسمية المسجد مسجداً لله استيفاء التقوى ممن أسسه، لقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ} [التوبة:108].
وشققوا في موضوع التقوى كلاماً طويلاً، وقالوا على سبيل الفلسفة إن هناك مساجد بنيت على التقوى يقيناً، وثانية بنيت على التقوى راجحاً، وثالثة على التقوى مرجوحاً، ورابعة على غير التقوى يقيناً.
إلى آخر هذا الضرب من التفلسف واصطناع الأسلوب العلمي في الكلام.
يقول الأستاذ رجب مذكور في رد هذا الشرط: أما عن الشرط الثالث -هو أننا لم نسم المسجد مسجداً لله حتى نعرف أنه قد أسس على التقوى-فإذا كانت التقوى كما قال عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا) فالتقوى في القلب، ومهما ادعاها أحد الناس فإننا نكل أمره إلى الله، ولا نجزم بوجودها فيه، ولا بانتفائها عنه؛ لأن الله وحده هو الذي يعلم ذلك، فلست أدري كيف يمكن أن نتحراها في أحد من الأحياء فضلاً عن الأموات، فضلاً عمن لا نعرفه أصلاً، إذ إن كثيراً من المساجد قد مات من بناها منذ قرون.
أي: ولابد من أن يكون المؤسس تقياً، هذا هو الشرط، فمن مات من عدة قرون كيف لنا أن نتحقق من كونه أسس المسجد على التقوى أو لم يوسسه على ذلك، ولو كان موجوداً فكيف نعرف التقوى وهي في قلبه؟! يقول: لست أدري كيف يمكن أن نتحراها في أحد من الأحياء فضلاً عن الأموات، فضلاً عمن لا نعرفه أصلاً؟! إذ إن كثيراً من المساجد قد مات من بناها منذ قرون، وفي كثير من الأحيان لا نعلم من الذي أسسها، ولم يكلفني الله إذا رأيت يافطة -ويقصد بها كلمة (لافتة) على حد تعبير فرقة التكفير والهجرة- مكتوباً عليها (مسجد الله)، لم يكلفني الله أن أسأل: من الذي أسس هذا المسجد؟ وهل أسسه من أول يوم على التقوى أم على غيرها؟! إن ذلك إعنات وحرج لا يعرفه الإسلام، وإنما يعرفه المتشنجون من أصحاب البدع والأهواء التي تلبس مسوح الدين.
أما قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن نهاه عن الصلاة في مسجد بعينه يعلم الله وحده الغرض الذي أسس من أجله، ولولا إخبار الله لرسوله به لصلى فيه صلى الله عليه وسلم: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108] فلا تحمل هذه الآية تكليفاً عاماً للمسلمين إذا رأوا مسجداً أن لا يعتبروه مسجداً لله حتى يعرفوا نية مؤسسه، وإنما كل ما فيها توجيه للرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من ورائه إلى أحقية القيام.
أي أن القيام أحق وأفضل في مسجد وصفه الله تعالى بأنه أسس على التقوى من أول يوم، حيث قد أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول: ولو شئت لتعقبت تفاصيلهم الباطلة فيما يقتصر بهذا الشرط، وبينت خطأهم في مسألة التقوى، والراجح والمرجوح فيها، بل إنه حسب تحليلاتهم العقلية السخيفة كان ينبغي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يصلي في المسجد الحرام قبل تطهيره من الأصنام، لتساوي أدلة الإثبات مع أدلة النفي كما يزعمون؛ إذ إنهم يقولون: إنه مؤسس على التقوى يقيناً، ودخله الضرار يقيناً بوجود الأصنام المعبودة من دون الله فيه.
فحسب مفهومهم للتوقف يجب أن يتوقف الرسول عليه الصلاة والسلام عن الصلاة فيه، أليس كذلك؟! فانظر -هداك الله- كيف يمكن أن تذهب التحليلات البشرية بأصحابها حتى تصل بهم إلى الاستدراك على رسل الله صلوات ربي وسلامه عليهم أجمعين.