هذه المسألة وضحها الحافظ ابن القيم رحمه الله في كتابه: (حكم تارك الصلاة)، ومعرفتها مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر، ثم يصح النفي أو الإثبات بعد ذلك.
فالكفر والإيمان متقابلان متضادان، إذا زال أحدهما خلفه الآخر، فإذا زال الإيمان عن الإنسان ثبت له وصف الكفر؛ إذ لابد لكل واحد من الناس من إحدى هاتين الصفتين: إما أنه كافر وإما أنه مؤمن.
أما مسألة التوقف في الحكم على شخص، والإتيان بالمقاييس والكلام الفاسد، مثل قولهم مثلاً: هذا حرير طبيعي، وهذا حرير صناعي، وكلاهما ناعم الملمس، فنحن لا نستطيع أن نحكم على أحدهما حتى نتبين حقيقة كل منهما، فهذا كلام لغو، وعندما يريد الإنسان أن يميز بين شيئين فإنه ينبغي أن يركز على وجه الافتراق وليس على وجه الاتفاق، يقول لك: هذا رجل مسلم، يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أو يلبس ملابس المسلمين، أو يقول: السلام وعليكم، أو يظهر أي شعيرة من شعائر الإسلام.
وأيضاً هناك آخرون كفروا من وجهة نظرهم هم، أو كفروا بالفعل، ويتلبسون ببعض هذه المظاهر الإسلامية، فيقول: هذا يظهر هذه الشعائر وهذا يظهرها، وأنا لا أدري من الصادق فيهما من الكاذب، إذاً: لابد أن نتوقف حتى نتبين صدق إيمانه بضوابط وقواعد اخترعوها وأحدثوها في دين الله تبارك وتعالى.
في أي نوع من العلوم حينما تعقد مقارنة بين جهاز وجهاز، خلية وخلية، أو أي شيء تضع أوجه المقارنة وتقارن بينهما، وهل تذكر أوجه الاتفاق أم تميز بينهما بما يفترقان فيه؟ عند عقد المقارنة ينبغي أن تبحث عن وجه الافتراق وليس عند وجه الاتفاق، مثلاً: مسلم ونصراني، هذا يقول الشهادتين لكنه سب الدين، أو خرج من الملة بأي فعل من أفعال الكفر، فهذا هو الذي ينبغي أن يكون.
والمقصود أن الكفر والإيمان متقابلان، ولابد أن كل إنسان يكون في حالة من حالتين: إما أن يكون مؤمناً أو كافراً، أما المنزلة بين المنزلتين فهذا كلام خارج عن أصول وقواعد أهل السنة والجماعة.
لكن الإيمان أصل وأساس، ثم يتفرع عن هذا الأصل شعب وفروع متعددة، وكل شعبة من شعب الإيمان يجوز أن يطلق عليها إيماناً، فمثلاً: الصلاة شعبة من شعب الإيمان؛ لذلك تسمى أحياناً: إيماناً، كما في قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنهم سألوا عن ذلك بعد تحويل القبلة إلى مكة المكرمة، فقالوا: فكيف بالصلاة التي كنا نصلي من قبل مستقبلين بيت المقدس؟ وماذا عن المسلمين الذين ماتوا قبل أن تحول القبلة وقد صلوا إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] أي: ليحبط صلاتكم إلى بيت المقدس؛ لأنكم في الحالين مستسلمون لأمر الله عز وجل.
فشعبة الإيمان تسمى إيماناً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه)، والمقصود من الحديث: نفي الإيمان عمن أساء الجوار، لكن هل الإنسان الذي يسيء إلى جاره يعتبر كافراً كاليهودي أو النصراني؟ كلا، لماذا؟ لأن شعب الإيمان تسمى إيماناً، لكن الإيمان له أصل، وهذا الأصل إذا ذهب زال الإيمان بالكلية وحل محله الكفر.
أما شعب الإيمان فإذا زالت فهي تنقص الإيمان لكن لا تحبطه بالكلية.
فالإيمان أصل له شعب متعددة، وكل شعبة من شعب الإيمان تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، والزكاة من الإيمان، والحج يسمى إيماناً، والصيام كذلك، وليس هذا في الأعمال الظاهرة فقط بل أيضاً في الأعمال القلبية الباطنة كالتوكل على الله عز وجل، والخشية من الله، والإنابة إليه كل هذه الأعمال الباطنة تسمى إيماناً، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة؛ أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من شعب الإيمان).
إذاً: هذه هي القاعدة: شعب الإيمان تسمى إيماناً، لكن ليس معنى ذلك أن شعب الإيمان التي هي فروع الأصل هي كل الإيمان؛ بحيث إذا زالت زال كل الإيمان، لكنها تسمى إيماناً بوجودها، وازديادها يزيد الإيمان، وبذهاب بعضها ينقص الإيمان ما دام النقص في الشعب لا في الأصل نفسه.
فشعب الإيمان عبارة عن مراتب أعلاها: لا إله إلا الله، ثم تأتي أفعال أخرى من الإيمان تصل إلى سبعين شعبة، فالصلاة شعبة من الإيمان، والزكاة، والحج، والصيام وهكذا، ثم تأتي الأعمال الباطنة: الحياء، والتوكل، والخوف، والرجاء إلى آخره، ثم تنتهي بآخر درجة من شعب الإيمان، وهي: إماطة الأذى عن الطريق؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق)، وقوله أيضاً في الحديث الآخر: (نحي الأذى عن طريق المسلمين)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
كلما اقتربت الشعبة من الصلاة أو الشهادتين ازدادت خطورتها، بحيث إذا زالت من قلب المؤمن ومن سلوكه فإنها تهز إيمانه هزاً شديداً.
كذلك توجد شعب إيمان أخرى قد تقترب من شعبة إماطة الأذى عن الطريق، وكلما كانت أقرب لشعبة إماطة الأذى عن الطريق كان تخلفها أهون مما عداها.
يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى: الكفر والإيمان متقابلان، فإذا زال أحدهما خلفه الآخر، ولما كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيماناً، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق، فإنه شعبة من شعب الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها، وإذا زالت زال الإيمان تماماً عن الإنسان وصار كافراً، مثل الشهادتين وكلمة التوحيد، رجل عنده حياء وكرم وصدق، وقل ما شئت من شعب الإيمان لكنه لم يشهد شهادة التوحيد، لم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله.
فزوال شعبة التوحيد التي هي أصل الإيمان ينهي كل إيمانه ولا يعتد به.
ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، فمن رأى قشرة موز أو زجاجة أو أي شيء يؤذي الناس في الطريق ولم يزله فهو مقصر، وينقص إيمانه بحسب ما يترك من هذه الشعب، لكن إذا أساء بترك إماطة هذا الأذى هل يصبح كافراً بمجرد ذلك؟ كلا، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً.
إذاً: ما بين كلمة التوحيد وإماطة الأذى عن الطريق شعب تتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمن هذه الشعب ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب.
كذلك الكفر له أصل وشعب، فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر.
فالحياء شعبة من شعب الإيمان، وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر، فكل شعبة إذا كان وجودها من شعب الإيمان فزوالها يعد من شعب الكفر.
الصدق شعبة من شعب الإيمان، والكذب شعبة من شعب الكفر، والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان، وتركها من شعب الكفر.
الحكم بما أنزل الله من شعب الإيمان، والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر.
والقاعدة: أن المعاصي كلها من شعب الكفر، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان، هذا الأمر الثاني الذي نريد أن نستصحبه.
خلاصة الكلام: أن المعاصي كلها من شعب الكفر، ويمكن أن تسمى أحياناً كفراً كما في النصوص التي ذكرناها، كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان.