ورد استعمال كلمة الكفر في كثير من النصوص دون أن يفهم منها خروج صاحب هذا الفعل الذي وصف بالكفر من الملة المحمدية، وقضية ضوابط الكفر والإيمان من القضايا التي إن لم يجتهد فيها الإنسان، ويعمل على الإحاطة بالنصوص الواردة في المسألة؛ فربما أخذ أحد طرفي النقيض، وانحرف في فهم هذه النصوص، ونزلها على غير منازلها.
فمثلاً يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من تعلم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها)، فهذا أطلق عليه الكفر؛ لكنه ليس بالكفر الذي يخرج من الملة، وإنما هو كفر النعمة.
ويقول صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً فيما رواه الشيخان: (لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفر بكم).
وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم فيمن أنكر نسبه: (تبرؤه من نسب وإن دق كفر بعد إيمان) أي: تبرؤ الرجل من الانتساب إلى والده، أو إنكاره ولده (وإن دق كفر بعد إيمان).
وقال صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر).
وقال: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فوصفهم بالكفر لوقوع التقاتل بينهم.
لكن عندنا أدلة أخرى إذا ضممناها إلى هذه الأدلة نفهم أن وقوع القتال بين المسلمين يسمى كفراً كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هل هذا الكفر أكبر مخرج من الملة؟
صلى الله عليه وسلم لا، ومن الأدلة التي تؤيد أن وقوع القتال لا يعد كفراً أكبر مخرجاً من الملة وإن كان يسمى كفراً: قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9]، فوصفهم أولاً بالإيمان، وأثبت لهم هذا الإيمان، ثم قال بعد ذلك: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10].
وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)، وإن كان ليس فيه لفظ الكفر الذي نتكلم عنه.
ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما وقال: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من المسلمين)، فوصف الطائفتين المتقاتلتين والجيشين بأنهم من المسلمين رغم وقوع القتال بينهما.
وقال عليه الصلاة والسلام: (تمرق مارقة على حين فرقة من أمتي تقتلها أولى الطائفتين بالحق).
وقوله تبارك تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة:178] إلى أن قال تبارك وتعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:178]، فناداهم في صدر الآية بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، ووصفهم وخاطبهم بالإيمان، ثم قال تبارك وتعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ)، أي: إن عفى ولي الدم عن أخيه، فأثبت له أخوة الإيمان مع وجود الاقتتال بينهما.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم).
وقال أيضاً: (من حلف بغير الله فقد كفر)، هل كفر بمعنى: خرج من الملة وصار مثل اليهودي أو النصراني؟ كلا.
كذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت).
وهذه الأحاديث لها نظائر كثيرة كالأحاديث التي نفت الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (لا إيمان لمن لا أمانة له)، فالمقصود: لا إيمان كاملاً.
ومعروف تفسير ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما لقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، قال ابن عباس: ليس بالكفر الذي يذهبون إليه.
وقال طاوس: سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: هو به كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال أيضاً: كفر لا ينقل عن الملة.
وقال سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
وهذا فيمن رفع راية التوحيد، ورفع راية تحكيم الشريعة، ويكون ذلك في حال الخلافة الإسلامية، ثم إن قاض من القضاة حكم بغير ما أنزل الله، وهو يعلم أنه عاص بفعله ذلك، كأن يكون حكم برشوة أخذها، أو محسوبية لبعض أقاربه، أو مجاملة لبعض الناس، أو اتباعاً للهوى؛ فهذه معصية أو كفراً دون كفر، وليس بالكفر الذي يخرج من الملة، وهذا بخلاف من نبذ الدين خلف ظهره، ولم يرفع بذلك رأساً، كما سنبين إن شاء الله بالتفصيل فيما بعد.
ومن المسائل التي وصف فاعلها بالكفر: ترك الصلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة؛ فمن ترك الصلاة فقد كفر)، وقوله: (بين المرء وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)، إلى جملة أخرى من النصوص التي فيها وصف تارك الصلاة بالكفر.
إذاً: ما هو الضابط؟ وما هو الميزان الذي نستطيع أن نعرف به أن الكفر أكبر أم هو كفر دون كفر؟ كذلك الظلم: هل الظلم أكبر يخرج من الملة أم هو ظلم دون ظلم لا يخرج فاعله من الملة وإن كان ينقص من الإيمان؟ فالكفر الأكبر يذهب بأصل الإيمان، والكفر الأصغر يذهب بكمال الإيمان، ينقص الإيمان لكن لا يطيح به بالكلية، كالشجرة إذا قطعت عنها بعض أغصانها أو فروعها تظل حقيقتها قائمة بخلاف ما إذا اجتثثتها من جذورها وأذهبتها بالكلية، فكيف نستطيع أن نضع ميزاناً دقيقاً لهذه الأشياء؟ ما ضابط الحكم على الفعل بأنه كفر دون كفر أو كفر أكبر، والظلم هل هو ظلم أكبر أو ظلم دون ظلم؟ فهناك بعض الناس لم يلتفت إلى هذه النصوص، فمن أجل ذلك جازفوا في الحكم على الناس بالكفر، وهو يعتمد على دليل شرعي لكنه يضعه في غير موضعه، فمثلاً يسمع أن من حلف بغير الله فقد أشرك فيحكم عليه بالشرك والكفر! لماذا تفعل هذا؟ يقول: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك)! وبذلك التقى مع الخوارج الوعيدية في تكفير المؤمنين الموحدين الذين ارتكبوا بعض هذه المخالفات.