هل الآخرة دار جزاء أم دار تكليف؟

وتنبني على هذه المسألة مسألة أخيرة، وهي إمكان امتحان أهل الفترة في الآخرة؛ إذ هل يصح أن تكون الآخرة دار تكليف، أم أنها دار جزاء فحسب؟ للعلماء في هذه المسألة قولان: القول الأول: إثبات وقوع التكليف في الآخرة.

وهو الذي ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، والإمام العلامة المحقق ابن القيم، والحافظ ابن حجر العسقلاني، والحافظ ابن كثير، والإمام ابن حزم وغيرهم من العلماء، ذهبوا إلى إثبات التكليف في الآخرة، وأن كون الآخرة دار جزاء لا يتنافى مع أن يكون التكليف في عرصاتها.

القول الثاني: انتفاء التكليف في الآخرة.

وهو قول الحافظ إمام المغرب ابن عبد البر وجماعة من المالكية، فقد ذهبوا إلى أنه لا تكليف في الآخرة، وأن الآخرة دار جزاء لا دار تكليف، لذلك طعنوا في الأحاديث التي استدل بها على الامتحان في عرصات القيامة، لأن الآخرة ليست دار تكليف، وطعنوا فيها من حيث السند.

وأجاب الفريق الثالث بأن هذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً باجتماع طرقها، فأثبتوا التكليف مستدلين بحديث الأسود بن سريع: (أربعة يحتجون يوم القيامة)، وفي نهاية الحديث: أن الله امتحنهم بأن أمرهم أن يلقوا أنفسهم في هذه النار، فهذا دليل على أن في الآخرة تكليفاً.

واستدلوا بحديث أنس: (يؤتى بأربعة يوم القيامة) وهو مثل الماضي، وكذلك حديث معاذ: (يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلاً) إلى آخره، وحديث أبي سعيد رضي الله عنه: في الهالك في الفترة إلى آخره، فهذه الأحاديث في جملتها تثبت أصل وقوع هذا في الآخرة.

ومما استدلوا به قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم:43].

ووجه الدلالة في هذه الآية على المقصود -وهو أن الآخرة يمكن أن يكون فيها تكليف- أنه تبارك وتعالى أخبر أنه سوف يدعو أقواماً إلى السجود يوم القيامة، وهذا تكليف، وجاء الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم مفصلاً ومبيناً شرح هذه الآية، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً)، أخرجه البخاري.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: فإنكم ترونه يوم القيامة، كذلك يجمع الله الناس فيقول: من كان يعبد شيئاً فليتبعه.

فيتبع من كان يعبد الشمس، ويتبع من كان يعبد القمر، ويتبع من كان يعبد الطاغوت، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها)، فالمنافقين كانوا يظهرون أنهم يعبدون الله مع الموحدين، قال: (فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم.

فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا أتانا ربنا عرفناه.

فيأتيهم ربهم في الصورة التي يعرفون، فيقول: أنا ربكم.

فيقولون: أنت ربنا.

فيتبعونه، ويضرب جسر جنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذٍ: اللهم! سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان، أما رأيتم شوك السعدان؟! قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: فإنها مثل شوك السعدان، غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله، فتخطف الناس بأعمالهم، منهم الموبق بعمله -يعني: الهالك- ومنهم المخردل -أي: الهاوي- ثم ينجو، حتى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده وأراد أن يخرج من النار من أراد أن يخرج ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله أمر ملائكته أن يخرجوهم، فيعرفونهم بعلامة آثار السجود، وحرم الله على النار أن تأكل من بني آدم أثر السجود، فيخرجونهم قد امتحشوا -أي: احترقوا- فيصب عليهم ماء يقال له: ماء الحياة، فيبتون نبات الحبة في حميل السيل، ويبقى رجل مقبل بوجهه على النار، فيقول: يا رب! قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها -يعني لهيبيها- فاصرف وجهي عن النار) أي أن هذا الرجل وجهه مصروف إلى النار، فهو يشكو إلى الله عز وجل ويقول: (يا رب! قد قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، فاصرف وجهي عن النار) فكل أمنيته أن يتحول وجهه يتحول إلى الجهة الأخرى؛ لأن لهيب النار ولفحها قد آذاه وعذبه، فلا يزال يدعو الله عز وجل - (فيقول: لعلك إن أعطيتك أن تسألني غيره.

فيقول: لا، وعزتك لا أسألك غيره.

فيصرف وجهه عن النار، ثم يقول بعد ذلك: يا رب! قربني إلى باب الجنة.

فيقول: أليس قد زعمت ألا تسألني غيره؟! ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فلا يزال يدعو فيقول: لعلي إن أعطيتك ذلك تسألني غيره؟! فيقول: لا، وعزتك لا أسألك غيره.

فيعطي الله ما شاء من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره، فيقربه إلى باب الجنة، فإذا رأى ما فيها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثم يقول: رب! أدخلني الجنة.

ثم يقول: أوليس قد زعمت أن لا تسألني غيره؟! ويلك يا ابن آدم، ما أغدرك! فيقول: رب! لا تجعلني أشقى خلقك.

فلا يزال يدعو حتى يضحك، فإذا ضحك منه أذن له بالدخول، فإذا دخل فيها قيل له: تمنى من كذا.

فيتمنى، ثم يقال له: تمنى من كذا.

فيتمنى حتى تنقطع به الأماني، فيقول له: هذا لك ومثله معه)، هذا الحديث أخرجه البخاري.

فوجه الدلالة في هذا الحديث أن الله عز وجل أخذ عليه العهود والمواثيق أن لا يسأله غير الذي أعطاه، فخالف هذه العهود والمواثيق وغدر بها بسؤاله بعد ذلك، فهذا تكليف، فقد الله كلفه أن لا يسأل غيره، وفي كل مرة كان يكلفه، فهذا يدل على وقوع شيء من التكليف في الآخرة.

وكذلك حديث الصراط الذي هو جسر جنهم، والعياذ بالله، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، يمر عليه الناس كلٌ على حسب عمله، فمنهم من يمر عليه كالبرق، وكالريح المرسلة، وكأجاويد الخيل، ومنهم الراكب والساعي، ومنهم المخدوش، ومنهم الماشي، ومنهم من يحبو حبواً.

قال ابن عباس: هو يوم كرب عظيم.

وقال القرطبي: هو مقام هائل يمتحن الله به عباده ليميز الخبيث من الطيب.

ويقول الطيبي: لا يلزم من أن الدنيا دار بلاء والآخرة دار جزاء أن لا يقع في إحداهما ما يختص بالأخرى؛ فإن القبر أول منازل الآخرة، وفيه ابتلاء وفتنة بالسؤال وغيره.

فالإنسان يعتبر قد انتقل إلى يوم الآخر بموته، وكل إنسان له يوم قيامة خاص به هو، وهو ساعة موته، فمنها ينتقل من الدنيا إلى أول منازل الآخرة، وينتقل من الغيب إلى الشهادة، وينقطع عمله، فهو -في الحقيقة- يشرع في قيامته منذ أن يدخل القبر، وأول ما يدخل القبر يجد امتحاناً وفتة بالسؤال والابتلاء.

فهذه أدلة من ذهبوا إلى وقوع التكليف في الدار الآخرة، ووقوع التكليف قبل دخول الجنة أو النار.

أما الفريق الآخر الذي يقول بعدم وقوع التكليف في الآخرة فقد استدلوا بالعقل، وأنه ليس في وسع المكلف الدخول في النار؛ لأن دخول النار من التكليف بالمحال.

وأجابوا عن الأحاديث التي فيها الأمر بدخول النار ابتلاء وامتحاناً لأهل الفترة بأنها ضعيفة ولا يحتج بها.

والجواب على هذا أن هذه الأدلة بعضها صحيح، وبعضها حسن، وبعضها ضعيف، ومنها ما يتقوى بعضه ببعض ويشتد به.

قال الحافظ ابن القيم: هذه الأحاديث يشد بعضها بعضاً، وتشهد لها أصول الشرع وقواعده، والقول بمضمونها مذهب السلف.

ويقول الحافظ ابن حجر: قد ثبت بأحاديث صحيحة أن الله سبحانه وتعالى يكلف عباده يوم القيامة في عرصات الآخرة، وأن التكليف في دار الدنيا، وأما ما يقع في القبر وفي الموقف فهي آثار ذلك التكليف.

وأجاب الفريق الأول على ما استدل به الفريق القائل بعدم التكليف من أنه ليس في وسع المكلف الدخول في النار بأن هذه النار هي رأي العين، وليست ناراً في الحقيقة، فهي في نظر العين نار، ومن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، كما جاء في الأحاديث.

وأيضاً: إذا كان دخول النار سبباً في النجاة فلا مانع من التكليف بدخولها، فهم قالوا: العقل يحيل أن يدخل نفسه في النار.

و صلى الله عليه وسلم من الذي يأمرهم؟ لو كان الذي يأمرهم من البشر لاختلف الأمر، كما حصل من ذلك الصحابي الذي كان أميراً على مجموعة من الصحابة، فأغضبوه في السفر فأمرهم أن يجمعوا حطباً ويوقدوا فيه ناراً، ثم قال: ادخلوا فيها.

فانقسموا إلى فريقين: فريق أراد أن يطيع؛ لأن الرسول عليه السلام أوصاهم بطاعته، وقال: (من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني) وفريق آخر قال: انتظروا حتى نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله، فو الله ما أسلمنا إلا لنفر منها.

فلما أتوا وأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: (أما إنهم لو دخلوها ما خرجوا منها أبداً، ألا لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.

فالشاهد في هذا أن المخلوق إذا أمرك بمثل هذا فلا يجوز لك أن تطيعه، لكن هنا من الذي يأمر بولوج النار؟ إنه الله سبحانه وتعالى، إذاً: التكليف من الله، والله عز وجل أخبرهم أولاً أن ذلك امتحان امتحاناً لهم، فإذا كانت طاعة الله عز وجل في دخول النار سوف يترتب عليها النجاة والفوز والسعادة فلا مانع من التكليف بذلك؛ لأنه ثبت مثل ذلك في حديث الدجال في آخر الزمان، وهو أن الدجال يكون معه ماء وناراً، فناره ماء بارد، وماؤه نار، والرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا إذا رأينا الدجال ومعه الجنة والنار بأن نقتحم هذه النار، وسوف نجد ما تحتها برداً وسلاماً، ومن يدخل جنته ويطيعه فسيجدها ناراً تلظى.

فهنا الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر من يدرك الدجال بأن يقع في النار، وهذا تكليف بدخول النار؛ لأن وقوعهم في النار سبب

طور بواسطة نورين ميديا © 2015