ثم يقول البهنساوي تحت عنوان: (معابد الضرار أو الجاهلية): إن مقصود سيد قطب من قوله: اعتزال معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المؤمنة مساجد لم يطلقه الشهيد أو يلقي القول على عواهنه، بل وضح المناسبة، وهي قوله: وقد يجد المسلمون أنفسهم ذات يوم مطاردين في المجتمع الجاهلي، وقد عمت الفتنة، وتجبر الطاغوت، وفسد الناس، وأنتنت البيئة، فهنا يرشدهم الله إلى أمور، منها اعتزال معابد الجاهلية.
فوصف الأستاذ سيد المساجد بكلمة (معابد الجاهلية).
هذا يتطلب أن يكون هناك اضطهاد ومطاردة للمؤمنين، وأن يكون المجتمع قد نتن وفسدت بيئته مع تجبر الطاغوت كما كان الأمر في عهد فرعون.
إن هذه مبررات القول باعتزال معابد الجاهلية، فهذا مثل وصف مسجد المنافقين بمسجد الضرار في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ} [التوبة:107 - 108]، فقد نهى الله النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي فيه لأنه مسجد للضرار، كما أن الله تعالى قد وصف صلاة الجاهلية بقوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأنفال:35].
ونحن قد نجد بعض الحكام قد اتخذ من بيوت الله أداة لأعمال الجاهلية من تصفيق وهتافات له ولجاهليته، وهنا يجب اعتزال هذا المسجد، وأما وصفه بأنه من معابد الجاهلية فإننا لا نقر هذا الوصف، ولكن الاعتزال هنا أمر مباح، ويقدر حسب حالة كل شخص، ولهذا ننقل ما كتبه العلماء عن أسباب نزول الآية محل الخلاف، فهذه العبارات المذكورة قد يكون فيها نظر، فهل وصف من الأوصاف يكفي لوصف المسجد أنه مسجد ضرار ويجب اعتزاله لأنه من معابد الجاهلية، فلو أن مسجداً أسسه رجل لوجه الله من ماله، وقف أرضاً يبنى عليها المسجد، وبذل المال في سبيل الله ليبنى به، ثم جاء المحافظ أو الوزير أو أي واحد من الظالمين ووضع يده على المسجد، وعلق رخامة مكتوباً عليها: افتتح في عهد السيد الرئيس كذا أو المحافظ كذا، وعلقت الرخامة، فهل يكفي هذا لأن ينقلب عمل هذا الرجل فيكون مسجد ضرار أو معبداً من معابد الجاهلية؟ وإذا ذهب عبد الناصر وصلى في مسجد عمرو بن العاص فهل ينقلب المسجد لوجود عبد الناصر ووجود سفهاء يصفقون له في المسجد إلى معبد جاهلية؟! فهذا أيضاً من الغلو، والله أعلم.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابعة والثمانين من سورة يونس: يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه، وكيفية خلاصهم، وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتخذا لقومهما بمصر بيوتاً، واختلف المفسرون في معنى قوله: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً}، فقال الثوري وغيره عن ابن عباس: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} [يونس:87] قال: أمروا أن يتخذوها مساجد.
وقال الثوري -أيضاً- عن منصور عن إبراهيم: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
يقول الحافظ ابن كثير: وكان هذا -والله أعلم- لما اشتد بهم البلاء من قبل فرعون وقومه، وضيقوا عليهم، فأمروا بكثرة الصلاة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153].
وفي الحديث: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى)، ولهذا قال تعالى في هذه الآية: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) أي: بالثواب والنصر القريب.
فمعنى قوله تعالى: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) أكثروا من الصلاة وذكر الله في البيوت، واستعينوا على هذا البلاء بأن تكثروا الصلاة في البيوت.
وقال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية: قالت بنوا إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة.
فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة.
قال مجاهد: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) لما خاف بنوا إسرائيل من فرعون أن يقتلوا في الكنائس الجامعة أمروا بأن يجعلوا بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سراً.
وقال سعيد بن جبير: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) أي: يقابل بعضها بعضاً.
أما القرطبي رحمه الله فيقول في تفسيره: الآية فيها خمس مسائل: الأولى: قوله: ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا)) أي: اتخذا ((لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا)) يقال: بوأت زيداً مكاناً وبوأت لزيد مكاناً.
والمبوأ: المنزل الملزوم، ومنه: بوأه الله منزلاً، أي: ألزمه إياه وأسكنه، ومنه الحديث: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).
قال الراجز: نحن بنو عدنان ليس شك تبوأ المجد بنا والملك ومصر في هذه الآية ((وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا)) هي الإسكندرية في قول مجاهد، وقال الضحاك: إنه البلد المسمى مصر، ومصر ما بين البحر إلى أسوان، والإسكندرية من أرض مصر.
قوله تعالى: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً))، قال أكثر المفسرين: كان بنو إسرائيل لا يصلون إلا في مساجدهم وكنائسهم، وكانت ظاهرة، فلما أرسل موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها، ومنعوا من الصلاة، فأوحى الله إلى موسى وهارون أن اتخذا وتخيرا لبني إسرائيل بيوتاً بمصر، أي: مساجد، ولم يرد المنازل المسكونة، هذا قول إبراهيم وابن زيد والربيع وابن مالك وابن عباس وغيرهم.
وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير أن المعنى: ((وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً)) يقابل بعضها بعضاً.
والقول الأول أصح، أي: اجعلوا مساجدكم إلى القبلة قبل بيت المقدس، قيل: بيت المقدس، وهي قبلة اليهود إلى اليوم، وقيل: الكعبة.
ويقول القرطبي أيضاً: المراد صلوا في بيوتكم سراً لتأمنوا، وذلك حين أخافهم فرعون، فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت، والإقدام على الصلاة والدعاء إلى أن ينجز الله وعده.
ثم ذكر الكلام في قوله عليه الصلاة والسلام: (وجعلت الأرض لي مسجداً وطهوراً)، وحديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيته بعض الركعات صلاة التنفل، وأيضاً تكلم على مسألة القيام في رمضان هل الأفضل أن يصلي في البيت أم في المسجد، ثم قال: وإذا تنزلنا على أنه كان أبيح لهم أن يصلوا في بيوتهم النوافل، فإن قلنا: الفرائض -أيضاً- يصلونها في بيوتهم إذا خافوا على أنفسهم فيستدل به على أن المعذور بالخوف وغيره يجوز له ترك الجمعة والجماعة، والعذر الذي أبيح له به ذلك كالمرض الحابس، أو خوف جور السلطان في مال أو بدن، دون القضاء عليه بحق، والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع، ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ولم يكن عنده من يمرضه، وقد فعل ذلك ابن عمر، أي أن هذه بعض أعذار التخلف عن صلاة الجماعة.
وقوله تعالى: ((وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ))، قيل: الخطاب لمحمد عليه الصلاة والسلام.
وقيل: الخطاب لموسى عليه السلام.