شرعنا في دراسة حول قضية المنهج عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى، وذكرنا أن المنهج عند الأستاذ سيد رحمه الله يتركز في كتابه: (معالم في الطريق)، وذكرنا أن (معالم في الطريق) هو خلاصة تفسيره للقرآن الكريم، وهو: (في ظلال القرآن)، وقد أخذ الأستاذ سيد رحمه الله عهداً على نفسه حينما شرع في كتابة تفسيره في ظلال القرآن أن يبتعد عن الموضوعات اللغوية والنحوية، والقضايا الجدلية والكلامية، وأيضاً المسائل الفقهية، وذكر أن الإسراف في ذلك يحجب القرآن عن روحه، ويستر جمال النص القرآني الأخاذ.
قال رحمه الله تعالى: كل ما حاولته أن لا أغرق نفسي في بحوث لغوية أو كلامية أو فقهية تحجب القرآن عن روحي، وتحجب روحي عن القرآن، وما استطردت إلى غير ما يوحيه النص القرآني ذاته من خاطرة روحية أو اجتماعية أو إنسانية، وما أحفل القرآن بهذه الإيحاءات! وقد اختلف الكاتبون في علوم القرآن وفي التفسير في موقع كتاب الظلال بالنسبة لغيره من أنواع أو اتجاهات التفسير، فهناك اتجاه التفسير بالمأثور الذي يتصدره تفسير الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله، وتفسير الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله، وهناك التفسير بالمعقول أو بالرأي، وهو ينقسم إلى مذموم ومحمود، وهناك التفسير اللغوي أو الأدبي أو البياني، وغير ذلك، فبعض أولئك -كالأستاذ الدكتور محمد الصباغ حفظه الله- صنف كتاب (ظلال القرآن) في ضمن التفسير البياني للقرآن، أي: الذي يركز على النواحي البيانية واللغوية، وليس المقصود النواحي اللغوية كما فعل -مثلاً- أبو حيان في البحر المحيط، وإنما المقصود التذوق البلاغي لجلال وروعة القرآن.
وما من شك في أنه ليس تفسيراً بالمأثور الذي ينضبط بقواعد علوم التفسير الذي ذكرها الكاتبون في علوم القرآن، وقد ذكر هو رحمه الله تعالى عن كتابه أنه عبارة عن تفكير، وليس تفسيراً بالمعنى المتعاهد عليه والمعروف حينما يذكر اصطلاح التفسير، فهو تفكير كما ذكرنا قد يصيب فيه المفكر وقد يخطئ، وهو عبارة عن انفعالاته الروحية، وتذوقه الأدبي لنصوص القرآن الكريم، ومع موهبته الأدبية -التي سبق أن أشرنا إليها- فإن هذا التفسير -كما يقول الدكتور الصباغ حفظه الله- يمتاز بأسلوب مؤلفه الموهوب، فهو يعرض موضوعات القرآن ومعانيه بأسلوب أدبي حي أخاذ سهل بليغ، فقد اجتنب كثيراً من المصطلحات العلمية التي نعثر عليها في كتب التفسير، فكان كتابه سائغاً مفهوماً مقبولاً من جماهير القراء، على أنه كان يكثر من استعمال بعض الكلمات التي تكاد تكون خاصة به، وإن الذي يألف أسلوب المؤلف يستطيع أن يدرك بسهولة معناها، لا سيما وأنه قد شرح بعضها في كتابه (التصوير الفني في القرآن)، ومن الطبيعي أن نجد في كتابة الكتاب الكبار بعض الكلمات التي يكثرون من تردادها، كما نجد بعض الجمل الخاصة التي تعد مظهراً من مظاهر الأساليب الشخصية.
يقول: أيضاً يعالج هذا التفسير الموضوعات القرآنية، والحقيقة هي أن هذا هو سر هذه الحرارة العالية التي يتضمنها أسلوب الأستاذ سيد قطب عموماً في المرحلة الثالثة، خاصة الأخيرة، وخاصة في كتابيه المعالم والظلال، سر هذه الحرارة العالية والحماس الصادق نحو قضايا الإسلام هو أنه عالج الموضوعات القرآنية باعتزاز بالإسلام يفوق الوصف، وإيمان به، وبعقلية حركية تدعو إلى استئناف العمل بالقرآن في قوة وصراحة وحيوية، وإلى إعادة سلطان القرآن على الحياة الإنسانية في نطاق الأفراد والأمم والعالم كله، كما عالج هذا التفسير بوعي عميق أصيل، وبحرارة بالغة، وعاطفة كريمة صادقة قضايا المسلمين الفكرية والاجتماعية والسياسية، كما ألم بقضايا الفكر المعاصر والحضارة القائمة، وأعلن بكل وضوح وتصميم أن المبادئ القرآنية هي ما تحتاجه الإنسانية في أزمتها الراهنة اليوم، ويتمتع المؤلف بتحرر تام من كل قيود العبودية الفكرية التي يوصف بها عدد من المفكرين المعاصرين، وهو على معرفته بحضارة الغرب لم يكن مأخوذاً بها، ولا مأخوذاً بالجوانب البراقة فيها، كان يقدرها حق قدرها، ويقومها التقويم السديد، ويحذر من سيئاتها ومن مساوئها التي تزحف على ديار المسلمين، وتهدد حياتهم كلها، والمؤلف يضع العقل في محله الذي ينبغي أن يوضع فيه، دون أن يغلب العقل بتحميله ما لا يقوى على حمله، ودون أن يعطله فلا يسخره فيما خلقه الله له، ويربط المؤلف بين آيات القرآن التي فيها النور والهدى وبين واقع الجيل العظيم الذي تلقى هذا القرآن ليعمل به، ويقيم جوانب حياته عليه، وهو في تفسيره يدعو المسلمين إلى أن يأخذوا أنفسهم بالجد، ويعملوا بالقرآن كما فعل أهل الصدر الأول زمن النبوة، ويحثهم على الانقلاب من واقعهم المريض المتخلف ليكونوا سعداء في بلادهم، وليسعدوا الإنسانية كلها؛ لأنه يقرر أن المسلمين يملكون بهذا القرآن ما لا يملكه أحد سواهم في الدنيا، وليس عليهم إلا أن يكونوا هم الواقع الحي لمبادئ الإسلام لتجد فيهم الإنسانية المعذبة الشقية طلبها.
يقول الدكتور الصباغ: وأخيراً: فإن هذا التفسير يبرز قضية وحدة الرسالات السماوية التي بعث الله بها أنبياءه ورسله؛ إذ كانت جميعاً تدعو إلى التوحيد وإسلام النفس لله وحده في الطاعة والعبادة.
هذه بعض الفوائد الجيدة، والثمار الزكية التي تقتطف من تفسيره (في ظلال القرآن)، لكن هذا الكتاب -كما قد ذكرنا من قبل- ليس خلواً من بعض المؤاخذات التي قد يتجاوز عنها إذا تذكرنا أن أسلوبه أسلوب الأديب الذي قد يسترسل مع مشاعره وإيحاءات الكلمات، لكن إذا قسنا بعض القضايا التي خلف من بعد الأستاذ سيد قطب رحمه الله خلف قد يكونون حملوها فوق ما تحتمل، أو كانت -في الحقيقة- تلك النصوص من كتابيه تحتمل ما وقعوا فيه من اتخاذها أصولاً وقواعد يبنى على أساسها مذهب أو منهج أو اتجاه فكري محدد المعالم لا يوافق ما عليه جماهير العلماء من السلف والخلف، خاصة في قضية الكفر والإيمان، فتقبل مثل هذه التوجهات في مجال الدعوة العامة من قبل حث المسلمين على هذه القضايا التي أشرنا إليها آنفاً من بث روح الاعتزاز بالإسلام فيهم، والاستعلاء على المناهج الكفرية، وفضح وكشف سبيل المجرمين إلى آخر هذه الميزات التي نقرها جميعاً ولا ننكر فضلها وشدة حاجتنا إليها.
لكن أين نضع -مثلاً- (معالم في الطريق) في المكتبة؟ وأين نضع كتاب (هل نحن مسلمون) للأستاذ محمد قطب رحمه الله؟ هل نضعهما بجوار شرح العقيدة الطحاوية، أو معارج القبول، أو السنة لـ ابن أبي عاصم، أو شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، أو غير ذلك من كتب العقيدة؟ أم نضعهما في الجانب الفكري من المكتبة؟ وكتاب (هل نحن مسلمون) هل نعامله على أنه يقصد بذلك أننا كفار، ولابد من أن ندعوا الناس إلى الإسلام حتى يدخلوا في الإسلام ويستأنفوا إسلامهم، أم أنه عبارة عن محاولة لإيقاظ الروح الإسلامية عند المسلمين لتنبيههم ضد مؤامرة أعداء الإسلام، أو ضد الغزو الفكري الذي يتلون بألوان وصور شتى؟ فمن الظلم مثلاً لكتاب (هل نحن مسلمون) أن نضعه مع كتب التوحيد الاصطلاحية والعلمية المقعدة لمنهج وضوابط وقواعد وأصول أهل السنة والجماعة، فهكذا ينبغي أن نتعامل مع هذه الكتب، فعند الانضباط، وعند التقريب والتأصيل والمحاكمة بالميزان العلمي الدقيق ينبغي أن نعود إلى علماء أهل السنة والجماعة، ورموز أهل السنة والجماعة في كل العصور الذين ضبطوا هذه المسائل وقعدوها، ومعرفة من هو المسلم، ومن هو الكافر، وبم يخرج المسلم من الإسلام، وبم يدخل الكافر في الإسلام ليست قضية غفلت عنها الأمة أربعة عشر قرناً، بل هذه القضية حسمت منذ القدم، وهي موجودة في كتب الردة من كتب الفقه وغيرها من كتب التوحيد، وواضحة وضوحاً يغنينا عن محاولة الاجتهاد في تحديد كيفية التعامل مع هؤلاء الناس.