تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)

من كان حكمه بغير ما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وقد قام بجمع الأقوال في تفسير الآية وتحقيقها الأخ علي حسن علي عبد الحميد الحلبي في كتاب أسماه: (القول المأمون في تخريج ما ورد عن ابن عباس في تفسير: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]).

ومجمل الكلام الذي نقل عن ابن عباس أو غيره: أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الآية، وكان أول ما نقل في كتب التفسير في الآية عن ابن عباس أنه كان يقول: من جحد بما أنزل الله فقد كفر، ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق.

يعني: دون الكفر الأكبر.

فعلى هذا الأساس ممكن أن نتخذ هذه القاعدة التي وضعها ابن عباس رضي الله عنهما نبراساً نرى في ضوئه رؤية صحيحة إلى الروايات الأخرى التي جاءت عنه في تفسير هذه الآية، فمثلاً: هو سئل في موضع آخر عن هذه الآية، فقال: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر وبكذا وبكذا، يعني: فاعله يسمى كافراً، لكن يكون الكفر كما في الروايات الأخرى: ليس الكفر الذي تذهبون إليه، فليس كفراً ناقلاً عن الملة.

ومعروف أن الكفر يطلق على المعاصي، والإيمان يطلق على شعب الإيمان أيضاً.

وهذا نظائره كثيرة، كقوله: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقوله: (لا ترجعوا بعدي كفاراً).

وإلا نكون مثل الخوارج الذين يكفرون بأي شيء يطلق عليه لفظ الكفر.

يقول ابن عباس: إذا فعل ذلك فهو به كفر، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر.

هذا في من لم يخرج عن الملة في قضية الحاكمية.

أيضاً في رواية أخرى، قال: هي به كفر، وليس كفراً بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقال أيضاً: إنه ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، كفر دون كفر.

أما ما جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه وعن الحسن أيضاً فنقل عنهم القرطبي وغيره أنهما قالا: هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار، أي: معتقداً ذلك ومستحلاً له، فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه مرتكب محرماً فهو من فساق المسلمين، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له.

أما مجاهد فقال: من ترك الحكم بما أنزل الله رداً لكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق.

وقال أبو مجلز كما روى الطبري: أن ناساً من بني عمرو بن سدوس سألوه عن آيات المائدة ليلزموه الحجة في تكفير الأمراء؟ هؤلاء كانوا من الإباضية فرقة من فرق الخوارج، أرادوا أن يلزموه بالتكفير، فسألوه عن الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فقال: هو دينهم الذين يدينون به، وبه يقولون، الكلام هنا عن تطبيق الآية على الأمراء، والأمراء هؤلاء كانوا مسلمين وإن بغوا في بعض الأحكام أو ظلموا أو حادوا لغرض دنيوي فهم لا يكفرون بذلك، فيقول: هو دينهم الذين يدينون به وبه يقولون وإليه يدعون، فإن هم تركوا شيئاً منه عرفوا أنهم قد أصابوا ذنباً.

وقال الطبري في تفسيره: إن الله تعالى عم بالخبر بذلك عن قوم كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكم على سبيل ما تركوه كافرون، يعني: الإمام الطبري قال: إنهم ينطبق عليهم الكفر الأكبر إذا كانوا جاحدين، كما ذكرنا في القاعدة التي قرأناها في بداية الكلام.

الانحراف في قضية الحاكمية إذا أحدث خللاً في أصل التصديق أو أصل الانقياد فهو كفر أكبر، وإن لم يمس التصديق والانقياد فهو كفر دون كفر، كذلك القول في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً هو بالله كافر.

كما قال ابن عباس.

هذا كلام الطبري.

كذلك يقول: في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به هو بالله كافر، كما قال ابن عباس؛ لأنه بجحوده حكم الله بعد علمه أنه أنزله في كتابه نظير جحوده نبوة نبيه بعد علمه أنه نبي.

ويقول ابن الجوزي: وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له وهو يعلم أن الله أنزله كما فعلت اليهود فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إلى الهوى من غير جحود فهو ظالم فاسق.

الرازي نقل قول عكرمة وصححه، وهو قوله في الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44]، قال: إنما يتناول من أنكر بقلبه، وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله، وأقر بلسانه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده فهو حاكم بأمر الله تعالى، ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية، وهذا هو الجواب الصحيح.

هذا كلام الرازي.

أما الحافظ ابن كثير رحمه الله فقال عند قوله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، قال: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، وكما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، حتى الياسق كان أفضل من القوانين الوضعية الآن؛ لأنه كان يأخذ من كتب أصلها سماوي، لكن الآن تؤخذ الشرائع والحلال والحرام من شرائع بشرية.

يقول: وهو عبارة عن كتاب أحكام اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة، فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير.

هذا كلام الحافظ ابن كثير.

ونقل عند تفسير الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، ما روي عن ابن عباس وطاوس: من أنه ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، وأنه ليس كمن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله، وما روي عن ابن عباس من التفريق بين الجاحد والمقر.

فخلاصة الكلام الذي ذكره ابن كثير: أنه يفرق في القضية على أساس الجحود أو الإقرار، إن كان جاحداً فهو كافر كفراً أكبر، وإن كان مقراً فهو كفر دون كفر.

أما الألوسي فقال رحمه الله: احتج الخوارج بهذه الآية على أن الفاسق كافر غير مؤمن، ووجه الاستدلال: أن كلمة (من) فيها عامة شاملة لكل من لم يحكم بما أنزل الله تعالى، فيدخل فيها الفاسق المصدق أيضاً؛ لأنه غير حاكم وعامل بما أنزل الله تعالى.

الخوارج أخذوا من الآية: أن الفاسق وإن كان مصدقاً بحكم الله فهو غير حاكم بما أنزل الله، واستدلوا بهذه الآية على تكفير الفاسق، وحتى ولو كان مصدقاً بحكم الله بمجرد عدم تطبيقه وحكمه بما أنزل الله.

يقول الألوسي: وأجيب: بأن الآية متروكة الظاهر، فإن الحكم وإن كان شاملاً لفعل القلب والجوارح لكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق، ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى، فإذا عرفنا أن المقصود بالتصديق هو التصديق الانقيادي، حينئذٍ ندرك أن عبارة الألوسي توافق القاعدة العامة التي ذكرناها.

معنى كلام الألوسي: أنه أجيب على الخوارج بأن الآية متروكة الظاهر؛ بأن الحكم وإن كان شاملاً لفعل القلب والجوارح، ولكن المراد به هنا عمل القلب وهو التصديق، ذكرنا من قبل عند كلامنا على حد الإيمان، ومعرفة الإيمان عند السلف، واختلافهم في معنى الإيمان، وأنه قول وعمل أو هو مجرد التصديق، وقلنا: يحمل كلام العلماء الذين قالوا: الإيمان هو مجرد التصديق، أنه لابد أن تضاف كلمة: التصديق الذي يستلزم الانقياد، أما مجرد التصديق فقد يقع في الشخص الذي هو متلبس بكفر الإعراض والاستكبار والجحود والعناد كما ذكرنا عن إبليس وفرعون وبني إسرائيل.

فمجرد التصديق لا يدخل في الإيمان، ولابد معه من الانقياد للشريعة، فمعنى كلام الألوسي: ولا نزاع في كفر من لم يصدق بما أنزل الله تعالى، يعني: التصديق الذي يوجب الانقياد.

أما المراغي رحمه الله فيقول في تفسيره: وخلاصة المعنى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة:44]، مستبدلاً به منكراً له كان كافراً لجحوده به واستخفافه لأمره.

العلامة الشنقيطي رحمه الله يقول في أضواء البيان: والظاهر المتبادر من سياق الآيات: أن آية: {فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] نازلة في المسلمين؛ لأنه تعالى قال قبلها مخاطباً مسلمي هذه الأمة: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا} [المائدة:44]، ثم قال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]، فالخطاب للمسلمين كما هو ظاهر متبادر من سياق الآية، وعليه فالكفر إما كفر دون كفر، وإما أن يكون فعل ذلك مستحلاً له، أو قاصداً به جحد أحكام الله وردها مع العلم بها.

الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أيضاً يقول في المنار: وقد استحدث كثير من المسلمين من الشرائع والأحكام نحو ما استحدث الذين

طور بواسطة نورين ميديا © 2015