إن حكام المسلمين في هذا الزمان في شتى بقاع العالم الإسلامي يحكمونهم بالحديد والنار والقهر، ويجبرونهم على الخضوع والإذعان للشرائع التي تخالف شريعة الله، وأما اليهود والنصارى أو بني إسرائيل الذين كانوا يتعبدون بإعطاء الأحبار والرهبان هذا الحق وفي استحداث ما يشرعونه لهم.
فكانوا يعتقدون أن لهم هذا الحق، وإن كانوا يعلمون أن هذا مخالف للتوراة والإنجيل، فهذا الخضوع من بني إسرائيل والقبول هو من جنس الخضوع للدين، والطاعة لأحكامه، والتعظيم لشعائره طعماً في الخلاص في الآخرة، ودرجات الخلود في ملكوت السماوات، فهذا تدين كانوا يتدينون به.
أيضاً: الآية في سورة التوبة لم ترد في معرض التقرير والتحرير لقضايا أصول الدين، وإنما تحكي وتصف انحراف حال أمة من الأمم اتخذ انحرافها طابعاً معيناً، وهو: ادعاء أحبارهم أنهم يمثلون الله، وأنهم النواب عن رسل الله تبارك وتعالى، وبالتالي يكون لهم الحق في ممارسة أمر النسخ والتبديل في أحكام الله عز وجل، واستحداث شرائع وشعائر لم يأذن بها الله، حتى أصبح دين بني إسرائيل كله من هذه الصناعة الآدمية.
يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، يعني: الطاعة في التشريع إن كانت من جنس الابتداع في الدين كما وردت الآية: ((شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ))، فلا جدال أنها شرك وكفر أكبر، ولا تكون الطاعة في التشريع وقبول التشريع من غير الله عز وجل شركاً أكبر إلا إذا دان الإنسان بهذا التشريع، أي: بأن يتدين بهذا التشريع، ويعتقده كما يعتقد الدين، فيرجع الأمر في الحقيقة إلى الاعتقاد، وليس إلى مجرد قبول الحكم، أما إذا كانت الطاعة من جنس اتباع الشهوات، ومن باب الاستجابة لداعية الهوى فهي ذنب من الذنوب يختلف الحكم على صاحبه باختلاف موضوع هذا الذنب.
فلو أن حاكماً من الحكام أمر الناس بالزنا، وشرع لهم إباحته، فأطاعه بعض الناس التزاماً للحكم بإباحته، ورداً لما أنزل الله من تحريمه، وأطاعه آخرون ليس إيماناً بهذه الإباحة، ولا كفراً بما أنزل الله من التحريم، لكن لأن هذا وافق هوىً في نفوسهم، ومرضاً في قلوبهم، مع بقاء إيمانهم وتصديقهم، كما يتواجد في بعض بلاد الكفار الذين يستبيحون مثل هذه الفواحش؛ فمن قبل هذا تديناً فهو كافر كفراً أكبر بلا شك.
أما من وجد القوم يعيشون في مثل هذه الغابات الكافرة وتابعهم على ذلك لمجرد أن هذا يوافق هواه، وهو يعتقد أن هذا حرمه الله عز وجل، فلا شك أن الحكم في حالة التدين يختلف عن الحكم في الحالة الثانية، فالأولون كفار مشركون، والآخرون عصاة مذنبون.
من هنا يكون الفرق بين الخضوع للأحبار والرهبان الذي كان في بني إسرائيل، والخضوع للطواغيت من ذوي السلطان، فالأحبار والرهبان يخضعون الظاهر والباطن، والناس يتدينون بذلك، ويخضعون الأجسام والأرواح والنفوس لما اعتقده الناس فيهم من أنهم يمثلون الله، أو ينوبون عن المسيح الذي يعبدونه، وأن المسيح -كما يفترون- أجاز لهم في السماء كل ما يريدونه هم على الأرض.
أما الطواغيت فإنهم يخضعون الظاهر فقط، ويقهرون الأجسام فحسب، ومن هنا كان لابد أن تقيد الطاعة لهم بالكفر بأحكام الله، إما على سبيل التكذيب وإما على سبيل الإباء والرفض، أما التعبد بما يقول الأحبار والرهبان خلافاً لحكم الله؛ فإنه يتضمن بذاته هذا القيد، فلا يحتاج إلى التنصيص عليهم، يعني: مجرد كلمة التعبد تفيد أن هذا شيء يعتقدونه ويدينون الله به.