أما بالنسبة لأعمالهم: فهم جروا في سلوكهم وأعمالهم على تشريع الأحبار والرهبان وليس على ما شرعه الله لهم في التوراة، فجمعوا في ذلك بين فساد العقيدة وفساد العمل، فالربوبية على أساس هذا الكلام التي ذكرها الله وحكاها عن بني إسرائيل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]، كما تتمثل في ادعاء الأحبار والرهبان حق النسخ والتبديل في أحكام الله، واستحداث شرائع وشعائر لم يأذن الله عز وجل بها، وفي إقرار بني إسرائيل هؤلاء الأحبار والرهبان على ذلك، وتعبدهم بما يتلقونه عنهم وإن كان مخالفاً لما في التوراة والإنجيل، فهذا بخلاف أنواع أخرى من الربوبية إنما تنشأ سلطة قاهرة غاشمة، أو سلطة سياسية من دولة تفرض أحكامها بالقهر والبغي والعدوان على شعوبها.
فما وقع من الربوبية عند اليهود والنصارى أو عند بني إسرائيل إنما اعتمد على سلطان التدين، وهيمنتها على النفوس، فهم تعبدوا بذلك، وأعطوا هؤلاء الحق في التحليل والتحريم، حتى ولو خالف ما يعلمونه من أحكام التوراة والإنجيل، ففي عقيدتهم في الأحبار والرهبان أنهم يمثلون الله في الأرض، وما عقده الله في الأرض يكون معقوداً في السماء، وما يحله يكون محلولاً في السماء.
فالحلال ما أحله هؤلاء، والحرام ما حرموه، والدين ما شرعوه، حتى فيما يتعلق بالقربات والحرمات يعطونهم صكوك الغفران، حتى أعطوهم التحكم في إدخال الناس الجنة وإخراجهم إلى النار، أعطوا الرهبان أو الأحبار هذا الحق، ولا توجد طريقة للتوبة إلا إذا ذهب إلى القسيس ويخلو به، ويجلس على كرسي الاعتراف، ويفصح له بكل تفاصيل الجرائم أو المعاصي التي ارتكبها، حينئذ يتوسط القسيس بينه وبين الله حتى يغفر له، والذي يملك أن يعطي حق إدخال الجنة يملك أيضاً عندهم أن يعطي حق أن يحرم من النار، وفي هذا مهازل عجيبة جداً.
فهذا هو الفساد الاعتقادي في قضية الربوبية التي وصفهم الله عز وجل بها، جاء في إنجيل متى: الحق أقول لكم: كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما ستحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء.
فكانوا إذا حزبهم أمر عقدوا له مجمعاً ينسخون فيه ما يشاءون، ويستحدثون فيه ما يشاءون، حتى آل الأمر ببني إسرائيل إلى أن أصبح الدين كله صناعة بشرية من صناعة الأحبار والرهبان، فهذا معلوم بالضرورة من تاريخ النصرانية المحرفة.