قال المؤلف: ليس مطلق النصرة من أصل الدين، يعني: حصر الكاتب الموالاة في معنى المناصرة والمظاهرة.
ثم قال: إن هذا ركن من أركان حد الإسلام لا يعذر فيه بالجهل، والقدح فيه قدح في أصل الدين.
ف
صلى الله عليه وسلم أنه ليست كل مناصرة هي من أصل الدين، بل ما كان من ذلك بسبب الدين، فإذا كان أصل الموالاة هي الحب والقرب، فإن الموالاة تشمل فيما تشمل النصرة.
بقي أن نقرر أصلاً هاماً وهو أن ما يرتبط من الحب والنصرة بأصل الدين هو ما كان من ذلك بسبب الدين، لا مطلق الحب ولا مطلق النصرة، أما ما لم يكن بأصل الدين فإنه يرتبط بالفروع، ويتفاوت الحكم فيه من صورة إلى أخرى.
تفصيل هذا الكلام أن الحب منه ما هو طبعي كحب الحليلة والأولاد، ومن الحب ما هو شرعي اختياري كحب المسلم لإسلامه، وحب ما شرعه الله لعباده من التكاليف؛ لأنها تنزلت من عند الله عز وجل.
أيضاً من الحب ما يكون لأسباب دنيوية؛ كصداقة وجوار ومصلحة، ومنه ما يكون مرده إلى الدين، كما يحب المسلم إخوانه في الله جملة على الغيب، فأنت تشعر بحب نحو كل مسلم على وجه الأرض حتى ولو لم تعرف اسمه ودون أن تراه، حتى ولو لم تكن لك أي صلة بهذا المسلم، فهذا الحب الذي يكون في الدين، فما يتعلق بأصل الدين من هذين النوعين من الحب الطبعي والشرعي فقط هو الحب الشرعي الاختياري الذي يكون مرده إلى الدين.
ونكرر الكلام بصورة أخرى، فنقول: إن تخلف الحب الطبعي أو التواد الدنيوي لأي سبب من الأسباب لا يعني بالضرورة تخلف الحب الشرعي وانقطاع الولاية، فقد يكره الإنسان زوجته ويحمله ذلك على طلاقها وفراقها، فلو تخلف هذا الحب لا يعني ذلك أنه يكرهها كرهاً شرعياًَ، وأن هذا يقدح في موالاته لله عز وجل ورسوله، هذا أمر طبعي وليس أمراً شرعياً، فهل معنى ذلك أن ولاية الإسلام تنقطع بين هذين الزوجين؟ لا، فولاء الإسلام باق، وهي ما زالت مسلمة لها حرمة المسلمة وهو كذلك، فيبقى أصل الولاء بسبب الإسلام، وقد أثبت القرآن كرهاً من هذا النوع ولم يثبت به انقطاع ولاية الإسلام، فقال تبارك وتعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14].
وهناك من العداوة ما قد تكون عداوة صريحة كعداوة العدو، وقد تكون عداوة غير مباشرة، كأن يشغلك عن ذكر الله، ولعل هذا هو المقصود بالآية، أو أن الإنسان يحصل لأهله وولده المال من الحرام، فهما يحملانه على فعل شيء من المحرم، ربما أيضاً يستثقل الإنسان بعض التكاليف الشرعية ويكرهها طبعاً، ولا يعني ذلك أن عمله قد حبط وأن إسلامه قد نقض، وأثبتت النصوص شيئاً من هذا الكره ولم تثبت به انخرام عقد الإسلام، كما ذكرنا الأمثلة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216]، وكذا مثال إباحة الشرع لتعدد الزوجات، فما من امرأة إلا وهي تغار وتكره أن يتزوج زوجها عليها، فهذه الكراهية كراهية طبعية، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام كان لا يؤاخذ زوجاته فيما أتينه من أفعال بسبب هذه الغيرة، فحينما أرسلت إحدى أمهات المؤمنين في يوم عائشة رضي الله عنها قصعة فيها طعام وثريد، فحملتها الخادم وأدخلتها على النبي عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة، فغارت أم المؤمنين وضربت القصعة وأسقطتها على الأرض حتى انكسرت، فماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ ظل يجمع الطعام من الأرض ويقول: (غارت أمكم.
غارت أمكم)، فلم يؤاخذها، وأبدل الأخرى بقصعة سليمة.
الشاهد أن هذا شيء طبيعي، لكن لو فرضنا أن امرأة من المسلمين تكره هذا الحكم؛ لأنه حكم الله، هذه تكون عرضت نفسها للردة، وألا يكون لها حظ من الإسلام إذا هي طعنت في هذا الحكم، وأن الله أباح تعدد الزوجات، أو اعتقدت أن هذا ليس من الشرع في شيء بدون تأويل، أو كذبت بهذا الحكم، أو جحدته أو كرهته شرعاً لا طبعاً، فهذا يمس أصل الدين ويمس العقيدة.
فهذه من الأمثلة الواضحة على التفريق بين الكره الشرعي والكره الطبعي، فإذا كرهت المرأة تعدد الزوجات؛ لأنه حكم الله، فهذه ينطبق عليها قول الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]، أما إذا كانت الكراهية طبعية بسبب الغيرة والطبع فهذا مما لا تؤاخذ به المرأة.
أيضاً القتال كما ذكرنا مكروه من حيث الطبع، لكنه محبوب من حيث الشرع، والدليل على ذلك أنك ترى المجاهد في سبيل الله يترك ماله وأهله وأولاده، ويلقي بنفسه مقبلاً غير مدبر في نحور الأعداء، وهو حريص على ذلك أشد من حرص الأعداء على الحياة، قال الله عز وجل في القرآن: {قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] فهو محبوب شرعاً للمؤمن؛ لأن في الجهاد والقتال في سبيل الله ثواباً عظيماً جداً، سواء في النفقة بالمال أو المخاطرة بالروح، فهذا يحبه حباً شرعياً، لكن الطبع قد يكره ذلك لهذه الأسباب.
أيضاً في بعض التكاليف الشرعية قد توجد كراهية طبعية.
هذا أصل معنى كلمة تكليف، التكليف: هو أن يلزم الشخص بشيء فيه كلفة ومشقة، ولذلك لا توجد عبادة إلا وفيها مشقة، لكنها مشقة مقدورة محتملة.
وقوع الكره الطبعي قد يوجد حتى بين بعض المسلمين من تحاسد وتباغض وتدابر، بل ربما يتلاعنون ويتقاتلون ولا يعني ذلك انقطاع أصل ولاء الإسلام بينهم، ونعتبر في ذلك فيما وقع بين الصحابة رضي الله عنهم من الاقتتال مع أنه لم يقطع الأخوة الإيمانية بينهم، حتى كان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يجمع القتلى من الفريقين ويصلي عليهم بعد انتهاء القتال.
وذكرنا آنفاً قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:9 - 10]، فلم تنقطع ولاية الإسلام ولا أخوة الإيمان رغم ما كان بينهم من تحارب وقتال، لذلك العلماء يفرقون بين القتل الذي يكون لعداوة أو لخصومة أو على مال، وبين القتل الذي يكون على دين الإسلام، فالأول يعتبر كبيرة من كبائر الذنوب، أما الذي يكون بسبب دينه وإسلامه فهذا كفر أكبر مخرج من الملة.
فالنوع الأول لا ينقض الولاء والبراء ولا يمس أصل الدين، وإن كان ينقص كمال الدين.
أما النوع الثاني: فهو قتل المسلم بسبب إسلامه، فهذا هو الذي ينقض الولاء والبراء.
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: عن حكم قتل المتعمد، وعمن يقتل على مال أو حقد ومن يقتل على دين.
فأجاب: الحمد لله، أما إذا قتله على دين الإسلام مثل ما يقاتل النصارى المسلمين على دينهم.
فهذا كافر شر من الكافر المعاهد، وهؤلاء مخلدون في جهنم كتخليد غيرهم من الكفار، وأما إذا قتله قتلاًَ محرماً لعداوة أو مال أو خصومة ونحو ذلك فهذا من الكبائر ولا يكفر بمجرد ذلك عند أهل السنة والجماعة.
انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية.
ذكرنا أيضاً أن وجود الحب الطبعي أو الدنيوي لسبب أو لآخر لا يعني ضرورة وجود الحب الشرعي وانعقاد الولاية الإسلامية، مثال ذلك: الزوجة الكتابية قد يحبها الزوج حباً طبيعياً، لكن لا يعني هذا بالضرورة وجود الحب الشرعي المحرم في مثل هذه الحالة، أو أنها لها ولاية الإسلام، كذلك محبة الرجل ولده وذوي رحمه وإن كانوا على غير دينه، هذه المحبة طبيعية، وفي القرآن الكريم إشارات إلى هذا النوع من الحب الذي لا يعني بالضرورة انخرام عقد الإسلام، مثل: قول الله عز وجل: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:56]، يعني: من أحببته لقرابته حباً طبعياً، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56]، وهذه كما ذكرنا في حق أبي طالب، وإن كان هذا الحب لم يكن من جنس حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمسلمين، فهذا حب خارج عن معنى الولاء والبراء.
وفي تفسير آخر للآية: إنك لا تهدي من أحببت هدايته.
وأيضاً: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، وهذا أيضاً يشمل فيما يشمل الكتابية.
وقال الله عز وجل: {هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119]، فهذه المحبة التي نعتها هذه الآية على الصحابة رضي الله عنهم من جنس المحبة الناقضة للولاء، وإن كانت مضعفة له ويجب اجتنابها.
كذلك مما لا ينكر أنه كلما قوي ما في القلب من الإيمان بالله، وكلما زادت ورسخت محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قلب العبد؛ فإن هذه المحبة تطرد ما فيه من ميل أو مودة إلى أعداء الله، حتى لو كان هؤلاء آباءً أو أبناءً أو إخواناً أو عشيرة، حتى إذا ما