الحكم هو الركن الثاني من أركان حد الإسلام في نظر المؤلف، ولا مناص ولا مهرب من اعتبار واحترام عارض الإكراه في الحكم على الناس في باب الحكم أو الحاكمية، فهذا النجاشي رحمه الله رغم أنه كان ملكاً للحبشة؛ لكنه لم يستطع أن يقيم في قومه كتاب الله، ولم يستطع أن يظهر في نفسه شرائع الإسلام؛ لأن قومه لم يطيعوه في الدخول في الإسلام؛ ولكنه عقد قلبه على الالتزام المجمل بالإسلام، وأقام من حدود الإسلام ما تمكن من إقامته، فعذره الله تبارك وتعالى بذلك، فـ النجاشي لم يقم دولة خلافة إسلامية في الحبشة رغم أنه دخل في دين الإسلام، وعذره الله بهذا الأمر، فما هو الفرق بين النجاشي وبين هرقل؟ الفرق هو وجود الالتزام المجمل بالإسلام في قلبه، وقد أعلن ذلك أمام الصحابة رضي الله عنهم جعفر بن أبي طالب وغيره، فالالتزام المجمل بالإسلام كان موجوداً في مكة، أما هرقل فاستنكف وأبى خوفاً على ملكه، فلم يوجد منه الالتزام المجمل بالإسلام.
والدليل على أن الله عذر النجاشي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خرج على أصحابه يوماً وأخبرهم أن النجاشي مات في هذا اليوم، وأمرهم أن يصلوا على أخيهم، وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب، والراجح في صلاة الغائب أن يصليها المسلمون على من لم يصل عليه في البلد التي مات فيها؛ وهذا الموضوع يأخذ أحياناً نوعاً من المجاملة لأقارب الميت أو ناحية عاطفية محضة؛ بدون انضباط بالدليل الشرعي، فـ النجاشي مات في دار كفر ولم يصل عليه، كذلك إذا مات مسلم في بلد من بلاد الكفار ولم يصل عليه، فنصلي عليه صلاة الغائب؛ لكن من مات مثلاً في مكة المكرمة، وصلى عليه آلاف المسلمين في موسم الحج -مثلاً-، هل يصلى عليه أيضاً في بلاده صلاة الغائب؟ لا، فالمسلمون صلوا عليه وقضي الأمر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وكذلك الكفار من بلغه دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الكفر، وعلم أنه رسول الله، فآمن به، وآمن بما أنزل عليه، واتقى الله ما استطاع، وأقام من حدود الإسلام ما يستطيع أن يقيمه كما فعل النجاشي وغيره، ولم تمكنه الهجرة إلى دار الإسلام، ولا التزام جميع شرائع الإسلام لكونه ممنوعاً من الهجرة، وممنوعاً من إظهار دينه، وليس عنده من يعلمه جميع شرائع الإسلام؛ فهو معذور، ففي دار الكفر ليس هناك من يعلمه شرائع الإسلام، ولا يستطيع أن يهاجر إلى دار الإسلام لأنه مستضعف، ولم يلتزم جميع شرائع الإسلام؛ لأنه ممنوع من إظهار دينه وإظهار شعائره، ومع ذلك آمن بالرسول وآمن بالله عز وجل واتقى الله ما استطاع كما فعل النجاشي؛ فهذا مؤمن من أهل الجنة.
هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، يقول: كما كان مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، وكما كانت امرأة فرعون، بل وكما كان يوسف الصديق عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفاراً.
وكما هو معروف عن الحضارات التي يفخرون بها فحضارة الفراعنة حضارة حجارة، أناس كانوا يعبدون الملوك والأصنام والحجارة، هذا أقصى ما يعبر به عن هذه الحضارة الوثنية.
فأهل مصر في زمن يوسف عليه السلام كانوا كفاراً مشركين، وهذا واضح من محاورته مع صاحبي السجن: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]، فهذه الآية نكررها لمن يفخمون الآن هؤلاء الأرباب، ويفخرون بانتسابهم إليهم، ويقولون: إن حضارتنا عمرها سبعة آلاف سنة، نعم سبعة آلاف سنة في الشرك والكفر والوثنية وعبادة الأحجار والملوك، أما الحضارة والنور فما عرفناها إلا منذ أربعة عشر قرناً، وقبل ذلك كنا غارقين في هذه الوثنية وهذا الشرك.
فالشاهد: أن يوسف عليه السلام كان مع أهل مصر وهم كفار، ولم يمكنه أن يفعل معهم كل ما يعرفه من دين الإسلام، ولما دعاهم إلى الإيمان والتوحيد لم يجيبوه، والسؤال الآن: أين الدليل على ذلك من القرآن؟ الدليل: قول مؤمن آل فرعون في سورة غافر: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر:34]، (هلك) هنا معناها: مات وتوفي، {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر:34] يعني: لم تلتزموا بدعوته إياكم إلى الإسلام والتوحيد.
أيضاً النجاشي وإن كان ملك النصارى، لكنه لم يطعه قومه في الدخول في الإسلام، بل إنما دخل معه في الإسلام نفر قليل من الحبشة؛ ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه؛ فصلى عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفاً وصلى عليه وأخبرهم بموته يوم مات، فقال: (إن أخاً لكم صالحاً من أهل الحبشة مات)، وهذا الحديث مما يستدل به على جواز النعي إذا لم يقترن بالتفاخر وأفعال الجاهلية؛ لأن هذا نعي بموت النجاشي، ولفظ الحديث: (نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي إلى أصحابه يوم موته)، فدل على جواز النعي -وهو الإعلام بالموت- حتى يشترك الناس في الجنازة ويبادروا بتجهيز الميت وغير ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكثير من شرائع الإسلام لم يكن دخل فيها -يعني النجاشي - لعجزه عن ذلك، فلم يهاجر، ولم يجاهد، ولا حج البيت، بل روي أنه لم يصل الصلوات الخمس، ولا صام شهر رمضان، ولا أدى الزكاة الشرعية؛ لأن ذلك كان يظهر عند قومه فينكرونه عليه، وهو لا يمكنه مخالفتهم، ونحن نعلم قطعاً أنه لم يكن يحكم بينهم بحكم القرآن، والله قد فرض على نبيه صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذا جاءه أهل الكتاب ألا يحكم بينهم إلا بما أنزل الله إليه، وحذره أن يفتنوه عن بعض ما أنزل الله إليه، كما في الحكم في الزنا بحد الرجم، وفي الديات بالتسوية في الدماء بين الشريف والوضيع: النفس بالنفس والعين بالعين وغير ذلك.
يقول شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (19/ 217 - 219): والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بالقرآن، فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيراً ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً، وفى نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
يقول: وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سمّ على ذلك، فـ النجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها.
فهذا أيضاً دليل على أن الإكراه قد يكون عذراً في بعض الحالات في جانب الحكم.