ما زلنا في مناقشة كتاب: (حد الإسلام وحقيقة الإيمان)، وقد انتهينا إلى وجود بعض الموانع التي قد تحول الحكم بالكفر على من دخل في الإسلام، وثبت له عقد الإسلام، وأتى بما يخالف مقتضى هذا العقد؛ لكنه لا يفعل ذلك الشيء عامداً أو مستحلاً، وإنما يفعله إما جاهلاً أو متأولاً أو مكرهاً، فهذه بعض الأعذار التي قد تحول دون الحكم على هذا الإنسان ببطلان عقد الإسلام.
وكاتب البحث حينما يحاول أن يستوفي هذه الشروط أو أركان حد الإسلام وحقيقة الإيمان، فالفرق في المنهج الذي عليه أهل العلم، وبين المنهج الذي ارتضاه الكاتب في بحثه هو: أن العلماء يستعملون القاعدة المعروفة: المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وعامة من يخوضون في قضية التكفير يعكسون هذه القاعدة المنطقية فيقولون: إن البريء متهم حتى تثبت براءته، فما دام الإنسان دخل في الإسلام بالشهادتين وبإعلان الولاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وثبت له عقد الإسلام بنطقه بالشهادتين؛ حينئذ يصبح الأصل في هذا الإنسان أنه مسلم، فهذا هو الأصل.
أما الفريق الآخر ممن ينحون منحى الكاتب، فإنهم يرون أن الإنسان لا يحكم له بأصل الإسلام حتى يستوفي هذه الأركان التي حدودها والشروط التي وضعوها.
فإذاً: المنطلق مختلف: نحن نعتقد أن هذا مسلم، وننظر في أفعاله على أن الأصل فيه الإسلام، أما هم فيرون أن الأصل فيه الكفر؛ ولذلك يتحقق في المنهجين قول الشاعر: سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب وقد ناقشنا من قبل أحد هذه العوارض التي تحول دون الحكم بالكفر على المسلم إذا صدر منه فعل الكفر، فذكرنا عذر الجهل، وعذر التأويل، والجهل تكلمنا عليه بالتفصيل، وطبقناه على العبادة والولاية والحاكمية؛ كذلك تكلمنا في قضية التأويل، والآن نتكلم على أحد هذه الاعتبارات وهو عذر الإكراه.
وهذا العارض لا يرد بالنسبة للالتزام المطلق من حيث ثبوت أصل الدين، لا يعرف المكره بهذه الناحية؛ لأن أصل الدين هو: أن يعقد الإنسان قلبه على الشهادة لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، فعقد القلب على الشهادتين، وإعلان ذلك عند القدرة؛ هو أصل الدين، لكن إذا حالت الظروف الظاهرة المحيطة بالإنسان دون إعلان هذه الشهادة، فهو باق على أصل الإسلام، وإذا عجز عن الإعلان عن هذه الشهادة، بقي عقد القلب الذي لا سلطان لأحد عليه.
ولهذا هرقل لم يقبل منه تصديقه برسالة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا التصديق كان مجرداً من الاتباع، فقد كان هرقل خائفاً على ملكه من قومه؛ لأنه إذا أسلم فسيضيع ملكه.
فالالتزام المجمل بالإسلام لا عذر فيه لأحد، ولا يشفع فيه عارض من العوارض، فالإنسان إذا حمله وعيد على ترك الالتزام المجمل بالإسلام، فهو ممن استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وهو من الكافرين؛ لأن هذا النوع لم يأت بالالتزام المجمل بالإسلام عن طريق إعلان الشهادتين؛ لكن التطبيق التفصيلي لقضايا أصل الدين، وبالذات الثلاثة أركان التي وضعها الكاتب وهي: النسك، والولاية، والحكم، فهذا هو محل العذر بالإكراه عند طروء الإكراه في باب النسك، أو الحاكمية أو الولاء؛ لكن الالتزام بأصل دين الإسلام لا يعذر به الإنسان بالإكراه.
فهل هرقل كان معذوراً عند الله؛ لأنه كان مكرهاً أو في معنى المكره من قومه؟ لا.
بل خشي أن يضيع ملكه، وهذا ليس إكراهاً؛ فقد استحب الحياة الدنيا على الآخرة، مع أنه يعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق؛ لكنه لم يتبع النبي صلى الله عليه وسلم، وظن أن هذا الإكراه يعتبر عذراً له، والصواب أنه قدم الدنيا على الآخرة، مع أنه لم يلتفت إلى ضمان الرسول صلى الله عليه وسلم له بالسلامة في قوله: (أسلم تسلم)، ولو كان عنده تقوى لأقدم على إعلان إسلامه، والانقياد للرسول صلى الله عليه وسلم، دون النظر في هذه العاقبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ضمن له العاقبة، فقال له: (أسلم تسلم)، فهو لم يلتفت إلى هذا الوعد، واستحب الحياة الدنيا على الآخرة، ولا يعد معذوراً بالإكراه؛ لأنه لم يعلن التزامه المجمل بدين الإسلام في باب النسك، وطروء عارض الإكراه في جانب النسك يقع نادراً؛ لأن النسك في غالب الأحوال عبادة فردية، وتوجه شخصي، لا مصلحة لأحد في منع غيره منه أو حمله عليه؛ فمن ضل في باب النسك ففي الغالب هذا يكون بمحض اختياره، وتقصيره في العبادات يكون بمحض التقصير من نفسه هو، لا بإكراه أحد له، لكن على أي الأحوال إذا وجد إكراه في باب النسك والعبادة، وقدر وقوع هذا؛ فلا شك أنه يعذر باعتبار هذا العذر بلا نقاش وبلا جدال.
وفي الأثر الموقوف -الذي يذكر في كثير من الكتب على أنه حديث صحيح- عن طارق بن شهاب في قصة الرجل الذي دخل النار في ذبابة، وأوله: (دخل رجل النار في ذبابة، ودخل رجل الجنة في ذبابة)، وذكر أن هذين الرجلين مرا على قوم يعبدون وثناً، فقالوا لأحدهما: قرب ولو ذباباً، فأبى فقتلوه، فدخل الجنة بسبب ذبابة؛ لأنه استنكف أن يعبد غير الله أو يتقرب لغير الله حتى ولو بأن يقرب ذبابة، أما الآخر فلما رأى الأول قد قتل فقرب ذبابة لهذا الوثن، فدخل النار بسبب تقديمه ذبابة، وهذا الحديث لا يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو أثر موقوف عن سلمان رضي الله تبارك وتعالى عنه.
ولو كان هذا الحديث صحيحاً فقد قال بعض العلماء: إن العذر بالإكراه هو من خصائص هذه الأمة المحمدية، واستدلوا بهذا الأثر وهو: أن هذا الرجل دخل النار بسبب ذبابة قربها للوثن، وهذا كان له عذر؛ لأنه أكره على أن يقرب ذبابة أو يقتل، فقرب الذبابة، فلو كان العذر بالإكراه معتبراً في هذه الشريعة التي كان ينتسب إليها لعفي عنه؛ لكنه دخل النار، فالمعنى: أنه كان يجب عليه أن يصبر ويثبت حتى ولو قتل، ولا يقرب ذباباً؛ لأنه لم يكن عندهم عذر بالإكراه.
وهذه القصة تذكرنا برجل سافر إلى بلدة في شرق آسيا، وهي مشهورة جداً بعبادة الأوثان والأصنام، فدخل السوق ومعه زوجته وهي مجلببة ومنقبة، فالناس ظنوا أنها الإله تجسد في صورة هذه المرأة المحجبة! فظلوا يسجدون ويركعون! فأراد هذا الأخ أن يستخف بما هم عليه من الشرك والوثنية، فأتى إلى أحد أصنامهم وبال عليه! فثاروا ضده وأرادوا قتله غيرة وانتصاراً لإلههم، وقبض عليه، وقالوا: إما أن تقتل، وإما أن ترضي إلهنا! وصارت أزمة سياسية كبيرة، وتدخلت الدولة في هذا الشخص، واضطر أن يقرب شيئاً يسيراً لهذا الوثن حتى يطلق سراحة! وليس المقام الآن مقام مناقشة سلوك هذا الأخ وتصرفه، فإن كان الأمر سينتهي به إلى هذا الموقف، فكان يمكنه أن ينكر عليهم باللسان حتى لا يئول به الأمر إلى أن يقع في مثل هذا الشيء الشنيع.
الشاهد: أن هذه الأمة تعذر بالإكراه، وهذه من الآصار والأغلال التي كانت على من قبلنا ووضعها عنا الله في شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن الأدلة على ذلك: قول أصحاب الكهف: {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} [الكهف:20]، فالنفي بالتأبيد يدل على انتفاء الفلاح عنهم تماماً، وأنهم لا يعذرون بالإكراه؛ لأنهم ربما أرغموهم على أن يظهروا العودة إلى ملتهم بالإكراه، فما في شك أن هذا في شريعتنا يكون عذراً كما قال الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:106]، أما في شريعة أصحاب الكهف فلم يكن لديهم عذر بالإكراه؛ ولذلك نفوا عنهم الفلاح إن عادوا لعبادة ما كانوا عليه، وهذا المعنى ذكره العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان، في تفسير قوله تعالى: ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ))، إما رجم وإما العودة إلى الكفر ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)).
يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: أخذ بعض العلماء من هذه الآية الكريمة أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة؛ لأن قوله عن أصحاب الكهف: ((إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ)) ظاهر في إكراههم وعدم طواعيتهم، ولعلهم يكرهون على العودة إلى هذه الملة، ولا يطاوعونهم في ذلك، ومع هذا قال عنهم: ((وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا)).
فدل ذلك على أن الإكراه ليس بعذر، ويشهد لهذا المعنى حديث طارق بن شهاب في الذي دخل النار في ذباب قربه مع الإكراه بالخوف من القتل؛ لأن صاحبه الذي امتنع أن يقرب ولو ذباباً قتلوه، ويشهد له أيضاً دليل الخطاب -يعني: مفهوم المخالفة- في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه)، فإنه يفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: (تجاوز لي عن أمتي) أن العذر بالإكراه من خصائص هذه الأمة، وأنه لم يتجاوز عمن عدا أمته من الأمم، فهذا يفهم بدليل الخطاب، وبمفهوم المخالفة يفهم منه: أن من عدا هذه الأمة المحمدية المرحومة لم يكونوا يعذرون لا بالخطأ ولا بالنسيان، ولا بما استكرهوا عليه.
يقول: وهذا الحديث وإن أعله الإمام أحمد وابن أبي حاتم فقد تلقاه العلماء قديماً وحديثاً بالقبول، وله شواهد ثابتة في القرآن العظيم والسنة الصحيحة، أما هذه الأمة فقد صرح الله عز وجل بعذرهم بالإكراه في قوله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل:106]، فالإنسان لا يكفر ولا يخرج من الملة إلا إذا رضي بالكفر وانشرح به صدره، لكن المسلم المكره قلبه عامر بالإيمان، قلبه مطمئن بالإيمان، ولكن تحت ضغط الإكراه وقع في شيء مما ينافي هذا الإيمان لعذر الإكراه فقط.
لكن لا عذر بالإكراه في أن يتحول القلب؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، إنما السلطان على البدن، أما القلب فيظل مطمئناً بالإيمان، راسخاً