لا يقتصر اللبس والتأويل الفاسد على حال الأشخاص في باب الولاء أو البراء، بل يرد كذلك على صور الموالاة نفسها؛ لأنها شعب متفاوتة تبدأ بالمعصية وتنتهي إلى الكفر، وقد تلتبس هذه الصور بعضها ببعض، وقد يتأول في بعضها المصلحة من جلب خير أو دفع شر، وقد يختلف النظر في بعض الصور هل هي من الصور المكفرة أم لا؟ هناك مثلاً من يروج للدعوة إلى القومية، ويسخر قلمه وعقله للدفاع عن القومية العربية أو القومية الإقليمية حسب كل شعب، ويسود في الترويج للقومية العربية الصحائف والمجلات، ويكون مدخولاً عليهم في ذلك كله، فيتوهم عدم التعارض بين الدعوة إلى القومية والدعوة الإسلامية أو يظن أن الدعوة إلى الوحدة على أساس القومية خطوة لا بد منها على طريق الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، وهذا ما حرص دعاة القومية الأوائل على التمويه به عن الأمة.
في بداية الدعوة إلى إيجاد الرابطة القومية، وبداية نشأة الجامعة العربية، ذلك الجهاز الخبيث الذي لا يفطن كثير من المسلمين إلى حقيقته، وغيره من الأجهزة الخبيثة؛ لبسوا على الناس حتى يبتلعوا هذا السم، ويقبلوا قضية الرابطة القومية بديلاً عن الرابطة الإسلامية، ولم يصرحوا بذلك، لكن لبسوا عليهم وقالوا: نحن نجمع ونوحد العرب أولاً، ثم بعد أن يتوحد العرب ننطلق إلى الآفاق بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية، فبسبب هذا التلبيس خدع خلق كثير بهذا.
ما من شك أن الدعوة إلى القومية هي في حقيقتها دعوة إلى إقامة الولاء والبراء على أساس الوطنية القومية، وليس على أساس الدين، فالمسلم لا يعرف الولاء والبراء إلا على أساس الولاء لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم والإخلاص لدين الله عز وجل، فالإسلام أتى منذ اليوم الأول لهدم أي رباط غير رابطة الإسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام لو دعا إلى وحدة عربية لضم إليه أبا جهل وأبا لهب وغيرهما من أشراف قريش الذين هم أحسن حالاً من أئمة القومية في هذا الزمان، ولكن الرسول عليه السلام عادى أقرب الناس إليه في سبيل هذا الدين، وكان المسلم الذي ينضوي تحت لواء هذا الدين يكون هذا اللواء حد فاصل بين عقيلته وبين قومه، وربما قاتل ابنه أو أباه في سبيل الله تبارك وتعالى، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما وقف على سفح عرفات يوم الحج الأكبر، وخطب في الأمة خطبة الوداع، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي)، كل شيء من أمر الجاهلية: حمية الجاهلية، حكم الجاهلية، تبرج الجاهلية، دم الجاهلية، ربا الجاهلية، ومن أمور الجاهلية التنادي برابطة غير رابطة الإسلام، مثل نظام الأحلاف والتحزبات، إنسان يوالي من ينتمي إلى حزبه أو وطنه أو جنسه أو قبيلته، ويعادي على هذا الأساس من هو على غير ذلك، وآثارها موجودة حتى الآن في بعض البلاد، وهذه جاهلية فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار: فقال المهاجري: يا للمهاجرين! -يستغيث بالمهاجرين لينصروه وهذه عصبية- وقال الأنصاري: يا للأنصار! فكادت تقع مقتلة بين المهاجرين والأنصار، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة)، فالدعوة القومية العربية دعوى منتنة خبيثة، وقد وضعها الرسول عليه السلام تحت قدمه، فكيف نرفعها رايات فوق رءوسنا؟! فما بالنا ندعو بدعوى الجاهلية؟! قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)، فهذه من دعاوى الجاهلية، وقال: (ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي).
وقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: (دعوها)، وهذا أمر بالترك، وظاهر الأمر الوجوب، فهذا يدل أيضاً على وجوب طاعة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر بأي رابطة غير رابطة الإسلام.
قوله: (فإنها منتنة) علل الحكم بأن التنادي بهذه الروابط دعوة خبيثة منتنة، فهي داخلة تحت قوله تبارك وتعالى في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157]، فهي محرمة لأنها منتنة وخبيثة، والنبي عليه الصلاة والسلام حرم علينا هذه الدعوى الخبيثة، أما رابطة الإيمان ورابطة لا إله إلا الله فهي تربط المؤمن بإخوانه كما تربط الكف بالمعصم، وكما تربط الساق بالركبة، المؤمنون كلهم جسد واحد: (لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى؛ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]).
هذا هو الكرم، وهذا هو الحسب الذي ينبغي التفاخر به، لا التفاخر بهذه الروابط الخبيثة التي تريد أن تقضي على الرابطة الإسلامية، ليس فقط تربط بين أهل لا إله إلا الله في الأرض، لكنها تعطف حملة العرش على أهل الإيمان في الأرض، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7]، فتجد رباط الإيمان يجعل أهل السماء من حملة العرش -وهم أفضل الملائكة- يدعون ويستغفرون للمؤمنين؛ لأنهم إخوانهم في هذه الأرض، فهذا هو الرباط: الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين بشكل عام، لا على أساس التنادي بأي رابطة من هذه الروابط الجاهلية.
ومن عجائب الأمور أن العلماء أجمعوا على أنه لو مات رجل مسلم وترك ميراثاً وليس له أي أحد يرثه سوى ابن كافر من صلبه؛ فإن هذا الابن لا يستحق أن يرث أباه، وإنما يئول المال إلى إخوانه المسلمين، فهم الذين يرثونه، ولا يرثه أبداً ابنه الذي من صلبه؛ لأنه لا توجد ولاية بين المسلم والكافر، ولا توارث بين المسلم والكافر، فهذا أقوى دليل على رابطة الإيمان، ورابطة العقيدة أقوى من رابطة النسب كما قال الشاعر: لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفر الشريف أبا لهب وسلمان الفارسي كان عبداً غير عربي، ومع ذلك رفعه الإسلام، وفي بعض الأحاديث الضعيفة: (سلمان منا أهل البيت)، فلم يفرق النبي عليه الصلاة والسلام بين أبيض ولا أسود ولا عربي ولا عجمي، فهذه كلها دعوات تريد أن تضعف وتقضي على رابطة الإسلام بين أمة المسلمين، لماذا؟ هناك سبب واضح جداً، بلاد المسلمين ذات قدرات عظيمة سواء بشرية أو اقتصادية أو عددية أو غير ذلك من أسباب القوة، ولا يشك أحد إذا نظر نظرة واحدة على خريطة العالم الإسلامي أن هؤلاء إذا اجتمعوا تحت لواء العقيدة فإنهم سيكونون أعظم أمم الأرض، والمسألة مسألة وقت حتى يأخذوا بأسباب النهضة المادية والروحية، فأمة تكمن فيها كل هذه الطاقات تجد الأعداء يتكالبون على تمزيقها وتفتيتها وتشتيت شملها.
أحد الكتاب يقول: إن القول بالوحدة الإسلامية دون أن يسبقها العمل على تحقيق الوحدة العربية وتحقيقها يكاد يكون من الأمور المستحيلة، فلا يتصور أن تتحقق وحدة بين بلد إسلامي ينتمي إلى الشرق العربي، وبين بلد إسلامي لا ينتمي إلى العالم العربي دون أن يسبق هذه الوحدة في الوجود وحدة عربية، ومن ثم لا يجوز ولا يعقل القول بإمكانية قيام الوحدة الإسلامية بين مختلف بلاد العالم الإسلامي كله دون أن تسبقها في الوجود وحدة عربية تمهد لها الطريق، ثم يقرر في النهاية عدم التعارض بين الدعوتين فيقول: وإزاء ذلك فإنا نؤيد من ذهب إلى القول بأن الوحدة العربية لا تتعارض مع القول بالوحدة الإسلامية.
كيف تتوافق الدعوى الجاهلية مع الدعوة الإسلامية؟! سارت مشرقة وسرت مغرباً شتان بين مشرق ومغرب كيف يجتمعان؟ فمن يدعو إلى الوحدة العربية قبل الوحدة الإسلامية، فإنه قد غفل عن الوقوف على حقائق بدهية تبدو لأي دارس لأحوال العالمين الإسلامي والعربي على حد سواء.
ثم يذهب إلى ما هو أبعد مدى من ذلك فيقول: لهذا يحق لنا أن ندعي أن كل من يعارض الوحدة العربية يكون قد عارض الوحدة الإسلامية، وأن من يعارض الوحدة العربية باسم الوحدة الإسلامية أو بحجة الوحدة الإسلامية يكون قد خالف أبسط مقتضيات العصر والمنطق مخالفة صريحة، كما يروى عن المسيح عليه السلام أنه سأله الحواريون: كيف نعرف الكذابين الذين يدعون النبوة؟ قال: من ثمارهم تعرفونهم.
قال: وإذا غضضنا النظر عن الأدلة من القرآن والسنة على تحريم المناداة بهذه الروابط القومية فلننظر إلى أدلة الواقع.
قلت: فلننظر إلى ثمرة الحنظل المرة التي جناها المسلمون من القومية العربية أو غيرها من الروابط الإقليمية الجاهلية، ولا يخفى ما فعله حزب البعث وهو أشد الناس تعصباً للمناداة بالوحدة العربية، حيث إنه أقام دينه الجديد الكافر الملحد على أساس الرابطة القومية والعربية، فهذه الفتن تموج كموج البحر، وقد جعلت هذه القومية حكام العرب كلهم يركعون أمام إسرائيل، وبل يسجدون أمام إسرائيل وأمريكا، فهذا الاستسلام والتخاذل والهوان الذي ما بعده هوان من الذي تسبب فيه؟ إنهم دعاة القومية العربية.
من الذي نكل بدعاة الإسلام في مصر وفي غيرها؟ إنهم دعاة القومية العربية سواء عبد الناصر عليه من الله ما يستحقه أو غيره، فهذا كله باسم الوحدة العربية وباسم القومية العربية.
وقد كانت علامة الولاء للشخص الذي ينتمي لحزب البعث الملحد أن يدوس على المصحف -والعياذ بالله- حتى يثبت أنه معتقد لحزب البعث، وكافر بالله ورسوله، فهذه العلامة تكشف لهم العدو من الصديق، فمن طاوعهم مع هذا الكفر المبين والإلحاد الظاهري فهو منهم، له ما لهم وعليه ما عليهم، أما من رفض ذلك فهذا يكون قد كشف خبيئة نفسه، وأن في قلبه رصيداً من الحب والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين.
ويقول قائلهم: هبوني ديناً يجمع العر