على أي الأحوال: فمن المغالطة والجرأة أن يأتي الإنسان لكل هذه الدرجات المتفاوتة من أنواع الحكم بغير ما أنزل الله ويجعلها كلها سواء بسواء، بل يجعل التكفير بها جميعها أصلاً من أصول الدين لا يصبح المرء مسلماً إلا باقتفائها، والحقيقة أن هناك بعض الكلمات التي تقول: إن الإنسان الذي يكون مستهتراً يحب أن يكون كل الناس مستهترين مثله، ويفضل دائماً أن يهلك غيره؛ لأنه يشعر بالوحشة، لذلك تجد القوم نتيجة الشعور بالوحشة بين أهل العلم وبين عباد الله الصالحين، وبين أهل السنة والجماعة تجدهم حريصين على ممارسة نوع من الإرهاب الفكري حتى يقسرك قسراً، ويجبرك إجباراً على أن تطاوعه في ضلاله، فتجدهم نتيجة هذه الوحشة يريدون أن يزينوها بالاستئناس بإرهاب الناس فكرياً، فيرفعون شعار: من لم يكفر الكافر فهو كافر، يعني: أنت إن لم تطاوعني ولم توافقني على تكفير من أكفره فأنت أيضاً تصير كافراً! ويفسر هذا بأن الرضا بالكفر كفر، إلى آخر هذه الشبهات التي سوف نتعرض لها إن شاء الله فيما بعد.
فهذا أيضاً من الأساليب الخبيثة في جر الناس إلى القول على الله عز وجل بغير علم، وانتهاك حرمات المسلمين، أما من ينظر بتجرد وموضوعية إلى هذه القضية؛ فإنه يدرك مدى الفتنة المشتملة عليها، والحقيقة أنه في كثير من بلاد المسلمين أغلب الطواغيت الذين يحكمون المسلمين لم يجرءوا حتى هذه اللحظة على إعلان رفضهم النهائي لشريعة الإسلام، ولم يعلنوا أنهم يردون شريعة الله مطلقاً، ولكنهم يناورون بينما تمضي سيرتهم في الحكم وأسلوبهم الحقيقي العملي على أساس الكفر بهذه الشريعة، وإقصائها عن الحياة، فهم يعلنون في شتى المناسبات تمجيدهم لها، واعتزازهم بها، وانتماءهم إليها، وأنهم جادون في العمل على تطبيقها بعد تهيئة المناخ وتنحية العقبات، على أن يتم ذلك بتدرج وبحكمة.
فهذه المناورات يقوم بها كثير من الحكام في كثير من بلاد المسلمين، وبقدر المناورة تعظم الفتنة على عموم المسلمين وبين الناس، فمن الناس من يستصحب مقالتهم وواقعهم، ويتأول هذه المقالة بأنها للتلبيس والمخادعة، وإلا فلماذا لا يطبقون القول على الفعل؟! إذ يكون فيها نوع من التلبيس والمراوغة والمناورة، ومن هؤلاء الناس من استصحب أقوالهم وتأول أفعالهم، فالفريق الأول جعل أفعالهم هي الأصل، وجعل الكلام من باب المراوغة والمناورة، وفريق آخر من المسلمين جعل الأقوال هي الأصل، فأحسن الظن بهم، وتأول لأفعالهم، والتمس لها المخارج والتأويلات، ولا شك أن القضية فيها قسط كبير جداً من الحرج والدقة.
وإذا نظرنا إلى مختلف التأويلات المطروحة في هذا المقام واعتبارها حينما نتوجه بهذه القضية إلى إجراء الحكم على معين من الناس، فنلاحظ أن هذا مزلق خطير يحتاج إلى كثير من الحذر قبل أن نكفر من لم يوافق هؤلاء على تكفيرهم.
هذا فيما يتعلق بالتأويل، وإن كانت تأويلات فاسدة، ويجب بيان الحقيقة في فسادها، وكوننا نعذرهم بالتأويل فهذا لا يعني أنهم غير آثمين، كما نقول: فلان معذور بالجهل.
لا يعني هذا أنه غير آثم، بل معذور بالجهل في قضية تكفيره وعدم تكفيره، لكن ذلك الشخص الذي يصلي صلاة بغير وضوء صحيح ويجهل واجبات الطهارة فهو آثم؛ لأن طلب العلم الذي تؤدى به الواجبات فريضة على كل مسلم، إذ كيف تصلي صلاة صحيحة قبل أن تتعلم واجبات الوضوء وأركانه؟ فإذا قصرت في التعلم مع إمكانيته فأنت آثم بذلك، فليس إعذار هؤلاء في مثل هذه القضايا يعني أنهم غير آثمين، بل هم آثمون، لكن القضية الآن قضية الكفر من عدمها.
مثال ذلك في باب العبادة والنسك: دعاء غير الله، ومن يتذرع به ممن يدعون غير الله عز وجل، وذكرنا مثالاً في قضية الحكم والتلبيس ومراوغة كثير من حكام المسلمين في هذا الزمان مما يوقع الناس في اللبس وانقسامهم إلى فريقين، وكل هذه القضايا سوف يأتي إن شاء الله تفصيل دقيق جداً لها فيما بعد.
بقيت قضية الولاية كما يقسمها الكاتب في مسلكه التفصيلي، أيضاً ينبغي أن نفرق بين الالتزام المجمل بولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين، وبين تطبيق ذلك عملياً على آحاد الناس، فالقدر الأول محكم ولا يثير إشكالاً، ولا يتطلب تأويلاً؛ إذ إن كل مسلم ينبغي أن يكون عنده ولاء مجمل وعام لكل مسلم موحد مؤمن بالله تبارك وتعالى، وأيضاً يكون عنده براء مجمل من الكافرين، فالقدر الأول -وهو الالتزام المجمل بولاية المؤمنين والبراءة من الكافرين- أمر محكم ولا يصير إشكالاً ولا يتطلب تأويلاً، أما أن هذا الرجل بعينه من أهل الإيمان تجب موالاته، أو من أهل الكفر تجب معاداته، فهذا موضع النظر والتأويل، وبقدر اختلاف الاجتهاد في الحكم على معين بأنه من أهل الكفر أو أهل الإيمان بقدر اختلاف النظر في الصلة به ولاء أو معاداة، فكثير من قضايا الإيمان والكفر كانت ولا تزال إلى زمننا هذا موضع جدل وخصومة بين أهل القبلة، ولأهل السنة فيها منهج، ولأهل الأهواء فيها مناهج وطرق ومسالك ينقض بعضها بعضاً، ومن المحال أن نتصور اتحاد الرؤية والتقاء النظر في هذه القضايا بين هؤلاء جميعاً، فمن الناس من يوالي كافراً لا على أساس أنه كافر، لكنه يواليه؛ لأنه لم يثبت عنده كفره، وأحسن الظن به فيما نسب إليه، وتلمس له التأويلات والمخارج، وذلك كما فعل كثير من أهل العلم مع ابن عربي، فـ ابن عربي نطق من الكفر بما هو شنيع جداً، وله أشعار خطيرة جداً إلى الغاية، فمع ذلك نجد كثيراً من أئمة أهل العلم وقعوا في موالاة ابن عربي، بل منهم من اعتقد حبه وإمامته، بل منهم من يلقبه بالشيخ الأكبر -هكذا مطلقاً- ولا يذكر اسمه؛ لشدة شهرته بين القوم.
فهذا الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى له رسالة سماها: تنبيه الغبي بتبرئة ابن عربي، فرد على هذا الكتاب برهان الدين البقاعي في كتاب اسمه تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي.
على أي الأحوال: هذا الإمام السيوطي رحمه الله لا يرى في ابن عربي أنه كافر، فهل معنى ذلك أنه يوالي كافراً من دون المؤمنين؟ كلا؛ لكنه أحسن الظن به، فأول كلامه، والتمس له شتى المخارج والتأويلات، فذكر الإمام السيوطي رحمه الله في هذه الرسالة: أن الناس افترقوا في ابن عربي فريقين: فرقة تعتقد ولايته، والأخرى بخلافها، ثم قال: والقول الفصل عندي فيه طريقة لا يرضاها الفريقان، وهي: اعتقاد ولايته وتحريم النظر في كتبه.
ومن هؤلاء الإمام الفقيه ابن عابدين الحنفي رحمه الله صاحب الحاشية المعروفة على الدر المختار، الذي عقد مطلباً في حاشيته عنون له بقوله: مطلب في حال الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين ابن عربي نفعنا الله تعالى به! ودافع في هذا المطلب عن ابن عربي، وقال: ومن أراد شرح كلماته التي اعترضها المنكرون فليرجع إلى كتاب (الرد المتين على منتقص العارف محيي الدين) لسيدي عبد الغني النابلسي.
ومن هؤلاء الفقيه ابن حجر الهيتمي صاحب كتاب الزواجر، حيث صرح بأنه يعتقد جلالته، وإن كان لا يعتقد عصمته، فهل نكفر أمثال هؤلاء الأئمة لموالاتهم لـ ابن عربي؟! هم لم يكفروه باعتبار أنهم تأولوا كلامه وأحسنوا الظن به، فبعضهم يقول: إن هذا الكلام مدسوس عليه، وهو لم يقله، وفي الحقيقة فإن إلحاد ابن عربي وكلامه في وحدة الوجود معروف، وهذه الكفريات الشنيعة، وكلامه في هذا بشع جداً، كقوله: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسة تعالى الله عما يقول، ويقول أيضاً: العبد رب والرب عبد فليت شعري من المكلف إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب فأنى يكلف وخلاصة كلامه: أن كل ما تقع عينك عليه فهذا هو الله! ويرى أن أعظم الموحدين اثنين: إبليس وفرعون! ويذكر كلاماً فظيعاً جداً في هذا، كقوله بإيمان فرعون، وأن فرعون مات مؤمناً، وهناك في الحقيقة كثير من الأشياء الشنيعة جداً التي ارتكبها ابن عربي، ومع ذلك فإن من العلماء من نفى عنه هذا الكلام ولم يصحح نسبته إليه، أو تأوله له، واعتبر بأنه في حالة من الفناء؛ بحيث صار مغلوباً على عقله من شدة الوجد والمحبة والذوق، إلى آخر هذه التمحلات.
لكن على أي الأحوال: هل نكفر أمثال هؤلاء الأئمة؛ لأنهم لم يكفروا ابن عربي؟ كلا.
لأنهم لم يوالوه على أساس أنه كافر، لكن هم أحسنوا الظن به، ونفوا عنه الكفر، فمن الناس من يعادي مسلماًَ، ويتبرأ من إنسان مؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا العداء لا لأنه مسلم؛ بل لأنه مرق من الدين وفارق جماعة المسلمين، وهذا حال أهل الأهواء الذين يكفر بعضهم بعضاً، ويتبرأ بعضهم من بعض، وحسبك من براءة الخوارج من الصحابة، فإنهم جعلوها شرطاً في صحة الإسلام، وأنه لابد أن يتبرأ الإنسان من الصحابة!! وتكفير الخوارج للصحابة معروف وحملهم السلاح عليهم، وهم خيار المؤمنين وسادات أولياء الله بعد النبيين والمرسلين صلوات الله وسلامهم عليهم أجمعين.