قال الإمام أبو بكر رحمه الله تعالى: ولئن جاز لجاهل أن يقول: إن شهادة أن لا إله إلا الله جميع الإيمان إذ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن قائلها يستوجب الجنة ويعاذ من النار، لم يؤمن أن يدعي جاهل معاند أيضاً أن جميع الإيمان القتال في سبيل الله فواق ناقة -أي: مقدار حلب الناقة- فيحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة دخل الجنة)، معناه: أن من يقاتل في سبيل الله دقائق معدودة يدخل الجنة، فهل يؤخذ من هذا أن جميع الإيمان هو أن تقاتل في سبيل الله هذه البرهة القصيرة؟ كلا، هذه فقط في فضيلة القتال في سبيل الله، لكن لا يؤخذ منه أن كل الإيمان المنجي والمستوجب عدم دخول النار هو فقط هذا الفعل، كاحتجاج المرجئة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة).
ويقول معاند آخر جاهل: إن الإيمان بكماله المشي في سبيل الله حتى تغبر قدما الماشي، ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)، ويحتج أيضاً ذلك الجاهل بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في منخري رجل المسلم).
ويدعي جاهل آخر: أن الإيمان كله عتق رقبة مؤمنة، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه النار).
ويدعي جاهل آخر: أن جميع الإيمان البكاء من خشية الله تبارك وتعالى، ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من بكى من خشية الله تعالى).
ويدعي جاهل آخر: أن جميع الإيمان صوم يوم في سبيل الله، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً).
ويدعي جاهل آخر: أن جميع الإيمان قتل كافر، ويحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)، يحمل الحديث على فضيلة قتل الكافر، لكن: هل أي كافر يقتل؟ هل النصراني أو اليهودي الذمي المستأمن في بلاد المسلمين بذمة وعهد يستوجب ذلك؟ كلا، قال القاضي: يحتمل أن يختص هذا الحديث بمن قتل كافراً في الجهاد، فيكون ذلك مكفراً لذنوبه حتى لا يعاقب عليها، وأن يكون عقابه بغير النار، أو يعاقب في غير محل عقاب الكفار، ولا يجتمعان في أدراكها.
ثم قال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: وهذا الجنس من فضائل الأعمال يطول بتقصيه الكتاب.
يعني: لو أخذنا كتاب الترغيب والترهيب، ففيه آلاف الأحاديث في فضائل الأعمال في الصالحات، ابتداءً من قول: لا إله إلا الله، وانتهاءً بإماطة الأذى عن الطريق، وسوف تجد أحاديث في فضل أعمال كثيرة، فهل يصلح أن يقال: الإيمان فقط هو واحدة من هذه الشعب؟ كلا، بل لابد من الإتيان باللوازم والشروط.
يقول: وهذا الجنس من فضائل الأعمال يطول بتقصيه الكتاب، وفي قدر ما ذكرنا غُنية وكفاية لما له قصدنا، أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر بفضائل هذه الأعمال التي ذكرنا، وما هو مثلها، لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن كل عمل ذكره أعلم أن عامله يستوجب بفعله الجنة أو يعاذ من النار؛ أنه جميع الإيمان، وكذاك إنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، أو حرم على النار).
المقصود: فضيلة هذا القول، لا أنه جميع الإيمان كما ادعى من لا يفهم العلم ويعاند، فلا يتعلم هذه الصناعة من أهلها، وهم: أهل العلم الراسخين، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)، يقول: هذه لفظة مختصرة، ثم أتى بالرواية الأخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمعان في النار اجتماعاً)، يعني: أحدهما مسلم قتل كافراً، ثم سدد المسلم وقارب.
قال أبو بكر: فلذاك نقول في فضائل الأعمال التي ذكرنا: من عمل من المسلمين بعض تلك الأعمال ثم سدد وقارب سدد: أتى بالأعمال على وجهها مائة بالمائة، وقارب: هذا يكون فيما عجز عن الإتيان به على الوجه الأكمل، فيقترب من السداد بقدر الاستطاعة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (سددوا وقاربوا)، وهي مأخوذة من تسديد السهم في الرماية، فالتسديد: أن تصيب القلب والمركز، والمقاربة: أن تقترب من الهدف بقدر استطاعتك.
فالمعنى: إذا عجز عن الإتيان بالتكليف الشرعي على الوجه الأكمل وهو السداد فلينتقل إلى المقاربة، ولا يترك العمل بالكلية.
فالمسلم إذا سدد وقارب ومات على إيمانه دخل الجنة، فمن جاهد في سبيل الله وقَتَل كافراً ثم سدد وقارب -أي: ثبت على الأعمال الصالحة والإيمان- حتى مات على الإسلام دخل الجنة ولم يدخل النار، المقصود لم يدخل النار إن مات وهو لا يستحق دخول النار، فهل يتعارض هذا مع هذا الحديث: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)؟
صلى الله عليه وسلم لا، فالمراد لا يجتمعان في منزلة واحدة من النار، وهي المختصة بالكافرين، لكن إذا قضي له دخول النار فهو يدخل الطبقة التي هي خاصة بعصاة الموحدين.
يقول: من عمل من المسلمين بعض تلك الأعمال ثم سدد وقارب ومات على إيمانه دخل الجنة ولم يدخل النار موضع الكفر منها، لذلك لا يجتمع قاتل الكافر إذا مات على إيمانه مع الكافر المقتول في موضع واحد من النار، لا أنه لا يدخل النار ولا موضعاً منها، وإن ارتكب جميع الكبائر.
هل يصح الاستدلال بهذا الحديث: (لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبداً)، على أنه لا يجتمع حتى لو مات مصراً على بعض المعاصي أو الكبائر، نعم؛ يمكن أن يدخل النار، لكن لا يجتمع في نفس المنزلة إن مات ذلك على التوحيد وإن أتى بهذه المعاصي، حتى ولو ارتكب جميع الكبائر خلا الشرك بالله عز وجل، إذا لم يشأ الله تعالى أن يغفر له ما دون الشرك، فقد أخبر الله عز وجل أن للنار سبعة أبواب، فقال لإبليس: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:42]، إلى قوله: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ} [الحجر:44].
فأعلَمَنا ربنا عز وجل أنه قسم تابعي إبليس من الغاوين سبعة أجزاء، على عدد أبواب النار، فجعل لكل باب منهم جزءاً معلوماً، واستثنى عباده المخلصين من هذا القسم، فكل مرتكب معصية زجر الله عنها فقد أغواه إبليس ((إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ))، هل مرتكب الكبيرة من الغاوين أم ليس من الغاوين؟ الجواب: هو ممن أغواهم إبليس، والله عز وجل قد يشاء غفرن كل معصية يرتكبها المسلم دون الشرك وإن لم يتب منها، والدليل على ذلك مثلاً قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، وانظر إلى قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17]، ثم قال عز وجل بعد ذلك: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ -الغرغرة- قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، فهذه الآية تدل على أيضاً على أن من مات مصراً على بعض المعاصي ولم يتب منها فإنه لا يخلد في النار، وأن بعضهم يتوب عند الموت فلا تقبل توبته، فهذا هو المصر، وهو ليس بكافر بدليل أن الله فصله عن الكافر.
قال: لا يتوب الله على هذا {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} [النساء:18]، والذين يموتون وهم كفار قسم آخر، فدل هذا على أن القسم الأول ليسوا من الكفار، ولكنهم في المشيئة، بدليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، فما دون الشرك من المعاصي فصاحبه داخل في المشيئة، ودخوله في المشيئة دل على أنه موحد؛ لأنه لا يدخل تحت المشيئة إلا الموحد.
فلذلك يقول تبارك وتعالى: ((وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ))، وأعلمنا خالقنا عز وجل أن آدم الذي خلقه الله بيده، وأسكنه جنته، وأمر ملائكته بالسجود له عصاه فغوى، وأنه عز وجل برأفته ورحمته اجتباه بعد ذلك فتاب عليه وهدى، ولم يحرمه الله بارتكاب هذا الحوب بعد ارتكابه إياه، فمن لم يغفر الله له حوبته التي ارتكبها، وأوقع عليه اسم غاو فهو داخل في باب من أبواب النار السبعة.
وفي ذكره آدم في قوله عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، ما يبين ويوضح أن اسم الغاوي قد يقع على مرتكب خطيئة قد زجر الله عن إتيانها وإن لم تكن تلك الخطيئة كفراً ولا شركاً ولا ما يقاربهما ويجزاهما، ومحال أن يكون من وحد الله عز وجل قلبه ولسانه المطيع لخالقه في أكثر ما فرض الله عليه وندبه إليه من أعمال البر غير المفروض عليه، وانتهى عن أكثر المعاصي، وأتى بأمور وأركان الإيمان، وصلى وصام وحج وفعل كل طاعة يقدر عليها، لكن ارتكب بعض المعاصي هل يستوي هذا في الغواية والضلال أو الانحراف مع من استكبر عن أن يقول لا إله إلا الله؟ {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، فهل يستوي هذا المؤمن بفعل بعض هذه المعاصي مع من لم يوحد الله تبارك وتعالى أصلاً، أو من كفر بالله، أو دعا معه آلهة أخرى، أو قال: إن الله له صاحبة أو ولد؟! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، فهل يستوي هذا العاصي الموحد مع من لم يؤمن بشي