ذكرنا التشابه الجسمي، وقد نفي بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11] والثاني: المداناة في المكانة حتى يمكن أن يحصل التزاوج أو نحو ذلك.
والنفي الإجمالي يأتي على حسب أوهام العقول؛ ولذلك فإن التفصيل البليغ في سورة الطور عجيب جداً، ألا تلاحظون أن أول ما يخيل إلى من سمع رسولاً يقرأ كتاباً ويقول: أنا أرسلت من رب العالمين، أن يتخيل أن هذا الكلام الذي يقرؤه إنما هو شعر، أو سحر، أو كهانة على عادة الناس، هذا أول ما يبدأ في العقل، فرد الله هذه الفكرة بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور:30-31] أي: فالشعراء يموتون وتنتهي أشعارهم معهم وليست لهم أذكار مستمرة.
بعد هذا يفكرون بهذا الوحي الذي أتاهم فيقولون: هذا الكلام إذا فهمنا أنه ليس مثل كلام البشر، لكن من أين أتى؟ هل هو كلام لا يلفت الانتباه ولا يمكن أن ينتبه له أحد، أو هو كلام أعظم من هذا؟ فلذلك رد الله هذه الفكرة بقوله: {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَل لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور:32-34] أي: إذا كان هو تقوله من عند نفسه وادعاه، فليس بأبلغ من أن يقول لهم بعدها: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) .
وهنا عرفنا أن هذا ليس كلاماً من كلام البشر وأنه وحي منزل، لكن من أين أتى؟ هنا يأتي التفكير فيمن أنزله.
فالتفكير فيمن أنزله بدايته التفكير في الخالق، والناس لم يشاهدوا خلق آدم، ولم يشاهدوا خلق السماوات والأرض وإنما رأوا الناس يتكاثرون، وراو المطر ينزل فتنبت الأرض شجراً وييبس وينبت من جديد وهكذا؛ فلذلك يمكن أن يتخيل العقل في هذه اللحظة إنكار الألوهية أصلاً فرد هذه الفكرة بقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36] .
هذه ثلاثة أفكار متسلسلة، بدايتها: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فنحن قطعاً خلقنا ونحن موجودون ولم نكن ثم كنا، فمن خلقنا؟! هل يمكن أن يكون الإنسان غير موجود ثم يوجد من غير تأثير أي شيء آخر؟ هذا مستحيل؛ لأن من مبادئ العقل أن وجود أثر بلا مؤثر مستحيل، وترجيح بلا مرجح مستحيل.
(أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ) هل خلقوا أنفسهم؟ هذا مستحيل أيضاً لا يقبله عقل، ولا يمكن أن يدعيه وهم، وإذا ادعى بعض الناس أن غلاماً خلقه أبوه، وأن ذلك خلقه أبوه وهكذا بالتسلسل، لكن من خلق هذه السماء وهذه الأرض، وما نراه من الخلق العظيم الذي لا يمكن أن يكون للإنسان فيه تأثير: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ) .
وبعد أن تثبت الألوهية لله الذي أنزل هذا الكتاب يأتي توهم آخر في العقل، فيقول: لكن لماذا خص هذا الإنسان بهذا الوحي من بين الناس؟ لماذا لم ينزل هذا على كل الناس أو يختار له منهم من هو أشرف في نظرهم منه؟ قال: {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمْ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور:37] فلا يمكن أن يتحكموا في عطاء الله واختياره، وليس لهم ذلك.
وهنا يمكن أن يحصل في الوهم في خيال الإنسان أن الرسالة مكتسبه، وأنه إنما اكتسب ذلك بعمل تقرب به إلى الله حتى ينيله هذه المنزلة والرتبة، فيرد الله على هذا فيقول: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور:38] لو كانت القضية باكتساب وحيلة فإن لكم عقولاً ولكم حيلاً، فلماذا لم تكتسبوها ولم تحصلوا عليها؟! وبعد هذا نصل إلى الكلام على الواسطة التي تنزل هذا الوحي من السماء إلى الأرض؛ لأننا قطعنا النظر عن السلم إلى السماء، ولم ينقل بعد هذا إلا هذا الوحي المنزل من السماء؛ فمن أتى به؟ يأتي الوهم في الملائكة، فهم يزعمون أنهم بنات الله، فرد الله هذه الفكرة فقال: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ} [الطور:39] ، كيف يكون هو الخالق الذي يهبكم البنيين، ويرزقكم هذه الأعداد الهائلة من الأولاد، ويختار لنفسه بنات فقط؟! هذا مستحيل.
فبطلت هذه الفكرة، ولم يبق إلا قضية العداوة الشخصية والحسد لهذا الرسول الذي اختاره الله، وأنزل عليه الملك بالوحي، فرد هذه الفكرة فقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور:40] فهل لك عليهم مطالبات تطالبهم بها في مقابل الوحي حتى يحسدوك عليها؟! أم أنك لا تسألهم عليه أجراً، وإنما تريد هدايتهم وإيصالهم إلى الحق؛ فلذلك وجدنا أن العقول بتدرج أفكارها يأتي تنزيل الوحي لهدايتها، ورد كل هذا الخبث حتى يذهب جفاء.