(والتكلم) : صفة كمال، ولهذا يعد كلام الله تعالى من صفات كماله، فهو مقتضٍ للكمال بنوعيه: الكلام الكوني والكلام التشريعي، فالكلام الكوني متضمن للكمال من جهة أنه لا يحتاج إلى معالجة ولا إلى أسباب، فهو الغني الحميد لا يحتاج إلى أي شيء من خلقه، أما المخلوق فإنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً إلا بمعالجة وتعب ونصب، والله سبحانه وتعالى يخلق الأشياء بقوله: (كن) فيكون، فلا يحتاج إلى أي معالجة؛ ولهذا كان الكلام هنا صفة كمال.
كذلك الكلمات التشريعية صفة كمال؛ لأن بها الاختيار التفضيلي، وبها الامتحان للناس، وبها البيان وبها الإعجار والتحدي: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] ، فهذا كله يقتضي وصف الله سبحانه وتعالى بالتكلم.
وهذا التكلم لا يحل البحث في كيفيته، ولكن يجب الإيمان بعظمته وجلاله؛ ولهذا لم يرد شيء في وصف التكلم إنما جاء في وصف الكلام، إلا آية واحدة من كتاب الله جاء بها ما يشعر بهيئة التكلم، وهي قوله سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] فبين هنا أن الملائكة عليهم السلام إذا تكلم الله عز وجل بشيء من أوامره تغشى قلوبهم ذلك؛ لجلال الله وعظمته وجلال كلامه، ففزعوا هذا الفزع الشديد، ثم يفزع عن قلوبهم أي: يزول عنها ما بها من الفزع.
والتفزيع معناه إزالة الفزع، والمقصود به إعادة الطمأنينة ورجوع التفكير، ففي وقت الكلام لا يمكن أن يتدبروا ولا أن يتفهموا إجلالاً لله ولكلامه، فإذا {فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] وهذا يشعر بعظمة تكلم الله سبحانه وتعالى في الملائكة الذين وصفهم الله بالقوة والشدة: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20] ومع ذلك إذا تكلم الله سبحانه وتعالى وصلوا لهذا الحال، بحيث لا يفهمون ولا يستوعبون وإنما يقولون: (مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ) ؟ وإنما يستوعب منهم من خصصه الله لذلك وهيأه له وهم المصطفون منهم في قوله: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنْ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} [الحج:75] ، ولذلك يسألهم بقية الملائكة عما وجه إليهم: {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23] .
وكذلك كتابة هذا الكلام الكوني أو التشريعي من صفات الكمال، فقد كتب الله الكلمات الكونية قبل خلق الخلق كلهم، فأمر القلم أن يكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، فجرى بذلك: رفعت الأقلام وجفت الصحف، وجعل ذلك في صحف عنده فوق العرش.
والكلمات التشريعية كذلك يكتبها، فقد كتب التوراة بيمينه لموسى في الألواح، وأنزل على إبراهيم صحفاً وعلى موسى صحفاً، وكذلك القرآن فإنه مكتوب عنده في اللوح المحفوظ، كما قال سبحانه وتعالى في وصف القرآن: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج:21-22] .
وقد اختلفت القراءة في هذه الآية فجاء في بعض القراءات السبعية: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (فِي لَوْحٍ محفوظٌ) أي: قرآن مجيد محفوظ في لوح، وفي بعضها: (في لوح محفوظٍ) أي: أن اللوح نفسه هو المحفوظ، فاللوح حافظ ومحفوظ، محفوظ بأمر الله بحيث لا يمكن أن يطلع عليه إلا من اختاره الله لذلك، وحافظ لأنه يحفظ ما كتب فيه من القرآن المجيد، وقد اشتهر على الألسنة اللوح المحفوظ، مع أنه يمكن أن يوصف أيضاً بأنه حافظ، والعرب يقولون: كتاب حافظ، بمعنى: كتاب جامع، ويقولون: بنو فلان لا يحيط بهم كتاب حافظ، معناه: كتاب يجمع أسماءهم.