قال عليه الصلاة والسلام موصياً أبا ذر: (يا أبا ذر! إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك) رواه مسلم، وهذه الوصية من النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر رضي الله تعالى عنه في مسألة طبخ المرقة -أي: طبخ اللحم- والمرق قد يحوي لحماً وقد يحوي أشياء أخرى، فالنبي صلى الله عليه وسلم أوصى أبا ذر رضي الله تعالى عنه أن يكثر المرق إذا طبخ شيئاً بإدام، أو بمرقة أن يكثر منها ويرسل إلى جاره.
وقوله: (فأكثر ماءها)، ليكثر الإدام، وهو ما يؤتدم به حتى يلين الخبز ويسيغه.
(وتعاهد جيرانك)، وهذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم وأكد عليه، أي: بالإحسان إليهم، وفعل البر معهم، بإشراكهم في الطعام الذي طبخته، وقد جاء عند ابن أبي شيبة هذا الحديث بلفظ: (إذا طبختم لحماً؛ فأكثروا المرق؛ فإنه أوسع وأبلغ للجيران) فهذا حث على مكارم الأخلاق، وإرشاد إلى محاسنها، وقد يتأذى الجار بقتار قدر جار، وقتار القدر: ريح الطبخ، فقد يتأذى الجيران منه، فلا أقل من أن يعطوا مما شموا رائحته أو تأذوا منه، أو وصل إليهم دخانه مثلاً، وقد تتهيج عند صغارهم الشهوة إلى الطعام مما شموا من الجار، وتشتد الحسرة والألم عند الفقير الذي لا يجد مثلما عند جاره عندما يشتم رائحة طعامه، وربما يكون المجاور يتيماً أو أرملة، فتكون المشقة أعظم وتشتد الحسرة عند الصغير.
ولذلك جعل تشريكه في شيء من الطبخ نوعاً من المواساة لما اشتموا من هذه الرائحة، فلا أقبح من منع الشيء اليسير للمحتاج، أما إذا كان إرسال مرقة دون شيء يفهمه الجار على أنه استهانة به مثلاً، فلا يفعل الإنسان ما يؤدي إلى استياء جاره منه، أو شعوره بعدم التقدير له.
قال أبو ذر: (إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني وقال: إذا طبخت مرقة؛ فأكثر ماءها ثم انظر أهل بيت من جيرانك؛ فأصبهم منها بمعروف) طبعاً (منها) يعود على المرق، و (بمعروف) هذه اللفظة: إيماء إلى أن المرسَل إلى الجيران ينبغي أن يكون شيئاً نافعاً، ولو كان قليلاً، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا تحقرن من المعروف شيئاً) و (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال أيضاً: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) هذه رواية مسلم، والبوائق هي الغوائل والشرور، ومعنى (لا يدخل الجنة) أي: لا يدخل الجنة ناجياً، إلا يصيبه شيء من العذاب، أو لا يكون أول الداخلين، فهذا المسيء إلى جاره لا تتوقع أن يكون أول الداخلين، أو من أوائل الداخلين، أو أنه يدخل دون حساب ولا عذاب، فلابد أن يصيبه شيء من جراء ما آذى جيرانه.
ونظراً لأن النساء كثيرات المكث في المنزل أكثر من الرجال، واحتكاك الجارة بجارتها أكثر من احتكاك الجار بجاره، حيث أن الرجال خروجهم من البيت أكثر من النساء، كان لابد من وصية خاصة إلى الجارات لبعضهن البعض، وهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة) متفق عليه.
لما قال: (يا نساء المسلمات!) أي: يا نساء الجماعة المسلمات (لا تحقرن جارة لجارتها شيئاً من المعروف ولو فرسن شاة) وهو الشيء اليسير جداً.